ثم قال الله جل وعلا بعدها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6]، هذه الآية الثانية جعلها الله مخرجاً للأزواج؛ لأن الإنسان إذا رأى امرأة غير زوجته مع رجل فإنه قد يصيبه شيء من الغيظ، ولكن لا يصل إلى درجة رؤيته مع زوجته، وحينئذٍ فإنه إذا أراد أن يقام الحد لزمه الإتيان بأربعة شهود، وقد يتعذر عليه ذلك، فيقول: أنا لا استطيع أن آتي بشهود، وهذا أمر لا يخصني.
فهذه مسألة ظاهرة، والأمر فيها ليس بالكبير على الرائي، ولكن الحرج -عافانا الله وإياكم- أن يرى الرجل رجلاً مع زوجته، فإن قتل قُتِل، وإن تكلم طولب بأربعة شهداء، وإن سكت سكت على أمر عظيم، فجعل الله تعالى له المخرج بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] وهذا تخصيص بعد العموم السابق، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، أما إذا كان لهم شهود فالمسألة قد حلت من قبل في آية القذف، وهذه آية الملاعنة وليست آية القذف.
فجعل الله جل وعلا آية الملاعنة فك خناق عن الأزواج؛ إذ لما نزلت آية القذف طولبوا بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بهؤلاء الأربعة طبقت عليهم تلك الأحكام الثلاثة، فضيق ذلك على الناس.
ويقال: إن عويمراً العجلاني أرسل رجلاً يقال له: عاصم بن عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله بعد نزول آية القذف: كيف يصنع الإنسان لو رأى رجلاً مع امرأته؟ فذهب عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأغلظ له النبي عليه السلام في الجواب، فلما رجع عاصم إلى عويمر سأله عويمر: ما الخبر؟ فأخبره عاصم بأنه لم يلق خيراً من سؤاله هذا، ولكن عويمراً لم يصبر، وكأنه كأن يرتاب في زوجته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك).
فلما رجع وجد الذي كان يخشاه، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية المعروفة بآية الملاعنة، وفيها نصرة لـ عويمر؛ لأنه لما قذف عويمر زوجته ولم تنزل الآية في نفس الليلة باتت الأنصار تقول: ليقامن غداً حد القذف على عويمر.
بناء على الآية التي قبلها في حد القذف، فلما نزلت هذه الآية فك خناق، فقال الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6 - 7].
فجيء بـ عويمر وجيء بزوجته بعد أن نزلت الآية، فأقسم عويمر قائلاً: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به، وفي الخامسة -وهي الموجبة- قال: أشهد أن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به.
وجيء بالمرأة فقالت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وقالت في الخامسة: أشهد بالله أن غضب الله علي إن كان من الصادقين فيما رماني به.
ونقل أنها قبل أن تقول الخامسة خوفت؛ لأنها هي الموجبة، فتلكأت ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، ومضت في يمينها، فقال صلى الله عليه وسلم -كما روى أنس -: إن جاءت به كذا وكذا، -ذكر أوصافاً لـ عويمر - فقد ظلمها، وإن جاءت به سابق الإليتين، خذلج الساقين، أكحل العينين فهو لما رماها به؛ لأن شريك بن سحماء الذي رماها عويمر به كانت هذه صفاته، ثم إنها وضعت حملها، فجاء الولد شبيهاً بمن رماها به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا كتاب من الله كان لكان لي معها شأن)، ومعنى هذا أن الحدود إذا أقيمت والقضاء إذا تم فإنه يفرغ من الأمر، والمقصود هو إقامة حد الله، أما إصابة عين الحق فليست بواجبة على البشر.