وبقي هناك قول يبدو لنا أنه أقرب الأقوال إلى الصواب، ولكن الذين ردوه لم يتأنوا -والله- في الرد، ولو تأنوا لأبصروه جيداً.
وهذا القول هو قول سعيد بن المسيب رحمه الله وأخذه عنه الشافعي وأيده، وهو أن الآية منسوخة، فالله يقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] فالذين لم يرضوا بأنها منسوخة قالوا: الآية في الخاص؛ لأن وصف الزنا في المرأة والرجل وصف خاص، وقول الله جل وعلا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] عام، وقد اتفق الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أن العام لا ينقض الخاص ولا ينسخه، فقالوا: قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] لا يُنسخ آية الزاني؛ لأن آية {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] آية خاصة، والعام لا ينسخ الخاص.
هذا هو قولهم، إلا أن هناك قرائن أخرى تدل على ما ذكرته تحتاج إلى تريث، وسأحاول بقدر الإمكان أن أبينها لك.
فينبغي أن يفهم أن هذه السورة نزلت في العام الخامس، والعام الخامس كانت فيه حادثة الإفك في غزوة المريسيع، فسورة النور تحدثت عن الإفك، وإذا عرفت زمن نزول السورة عرفت أن نكاح المشركات من المؤمنين وقتها كان قائماً، ونكاح المؤمنات من المشركين كذلك كان قائماً، والدليل على ذلك أن الآية التي نسخت نكاح المؤمنات من المشركين في سورة الممتحنة، وسورة الممتحنة نزلت بالاتفاق بعد الحديبية، والآية هي قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
فالله عندما تكلم في سورة النور لم يكن في ذلك الوقت قد حرم جل وعلا نكاح المؤمنات من المشركات.
وأما نكاح المؤمن من المشركة فإننا نقول: حرمه آية البقرة: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221].
فأوجه الأقوال أن نقول: إنها نزلت بعد سورة النور، فعلى هذا نقول: إن النكاح هنا بمعنى العقد، وهو الكثير المستعمل في القرآن، فيصبح معنى الآية: أنه لا يليق بالمؤمن ولا يجوز له أن ينكح زانية، ولا يجوز للمؤمنة أن تنكح زانياً، فالزاني لا ينكح إلا زانية مثله أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان مثلها أو مشرك، ثم نسخ هذا الأمر جملة، أي: نسخ نكاح المؤمنات من المشركين بآية الممتحنة، ونسخ نكاح المؤمنين من المشركات بآية البقرة.
وأما نكاح الزواني فالدليل على أنه جائز عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، وقوله جل وعلا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] واضح؟ وهذا القول في ظني -والعلم عند الله- أظهر من غيره؛ لأن غيره يحتاج إلى تعسف قد يكون صعباً قبوله، وقد قلت: إن هذا هو مذهب الشافعي وسعيد بن المسيب، ويؤيده عقلاً أننا نقول: إنه ينبغي أن ينظر في حال القائل، فإن لحال القائل دوراً في القول لا يصح إلغاؤه بالجملة.
وسعيد بن المسيب أحد أجلاء التابعين، وكان يحفظ كثيراً من الآثار المنقولة عن عمر، بل احتج بمراسيله الشافعي وبعض العلماء خاصة إذا حدث عن عمر، فـ سعيد بن المسيب يقبل قوله، ونقول: إن الذي دفع سعيداً إلى القول بأنها منسوخة علمه بالآثار، وقد تكون هذه الآثار ليست موجودة لدينا، ولكن نقول: إن غالب الظن أن لا يتجرأ سعيد رحمه الله على القول بأنها منسوخة دون أن يعضده أثر قد سمعه؛ لما علم من تقوى الرجل.
ثم إن الآخرين من الفضلاء الذين ردوا هذا النسخ ردوه بالقاعدة التي سبق أن بيناها وهي أن العام لا ينسخ الخاص، وقد حررنا أن العام ليس آية واحدة، بل هو عدة آيات تعاضدت فأخذنا بها وقلنا: إنها تنسخ الخاص.
وبينا أنه ينبغي النظر في زمن نزول السورة بقدر الإمكان، ففهمنا من سورة الممتحنة أن نسخ نكاح المؤمنات من المشركين كان بعد الحديبية، وصحيح أننا في آية البقرة لا نعرف زمناً، ولكن نستطيع أن نقول بذلك من حيث الإجمال العام الذي يتفق مع تفسير هذه الآية.
فهذا هو ما يمكن أن يحرر في قول الله جل وعلا: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].