ثم أدب الله تعالى نبيه فقال: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، هذه الآية تبين أن من أعظم ما يحال بين العبد وبين ربه النظر في ملذات الدنيا، وهذه الدنيا من حقارتها على الله أنه لم يأذن بالمعصية إلا فيها، ولو كانت تزن عند الله جل وعلا جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهي على اسمها دنيا، أي: نازلة، والتعلق بها تعلقاً تاماً وجعلها في القلب من أعظم ما يحول بين العبد وبين ما يريد عند الله من الشرف العظيم والجنة والمعالي الكريمة.
وقد حمى الله جل وعلا أنبياءه ورسله منها، فمن أعطاه الله منها كسليمان وداود عليهم السلام جعلها لهما عوناً على طاعته، كأصحاب المال والثراء من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، لكنها في الجملة لا ينبغي أن تستقر محبتها في القلب، ونبينا عليه الصلاة والسلام خير ما بين أن يكون نبيناً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار الثانية، واختياره للثانية يعني أنه سيبتلى فيلتزم بها، فلما كانت تأتيه الغنائم لم يكن له منها حظ ولا نصيب صلوات الله وسلامه عليه إلا بقدر ما يقوت به أهله، وكان يقول: (أجلس كما يجلس العبد)، وعندما كان يأكل كان يأخذ الذراع فينهسها نهساً فعل من هو متشوق إليها لا من هو متعود عليها، ويدخل عليه عمر وقد أثر الحصير فيه فيحزن شفقة عليه، ويذكر كسرى وقيصر وما هو فيه، فيقول له: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طلباتهم في الحياة الدنيا).
والتعلق بالدنيا يحول بين المرء وبين معالي الأمور؛ لأن من يروم مجداً لا ينبغي له أن يتعلق بالدنيا؛ لأن التعلق بالدنيا يورث أمرين: يورث الجبن، ويورث الحرص، وهو الطمع، ومن كان حريصاً أو جباناً لا يمكن أن يسود، قال القائل: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال لكن من طلب معالي الأمور لا بد أن ينزع الدنيا من نفسه ويجعلها مطية لما يريد ولا يجعلها في ذاتها غاية، وانظر لمن عبد الدينار والدرهم وتعلق بهما كيف صارت أحوالهم، وانخفاض سوق الأسهم في الزمن القريب أكبر دليل على تعلق فئام كثير من الناس بالدنيا، صحيح أن الإنسان لا يتحمل الخسارة، وإذا وقعت لا يلام الناس لوماً وعتباً قاسياً، لكن لا ينبغي للعاقل أن يتعلق بها تعلق من يصل في مراحل حياته إلى أن الرزق له طريق واحد، والله يعلم عباده ويؤدبهم فيقول: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:21]، ومن عرف الله جل وعلا حق المعرفة علم أن أسباب الرزق والعطاء ليست أبداً محصورة في طريق واحد؛ لكنها من رازق واحد هو الله، فالله يقول لنبيه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه:131]، وهذا يلزم من خلاله ألا يقلب الإنسان طرفه كثيراً في متاع أهل الحياة الدنيا قدر الإمكان، {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131]، ولماذا قال الله: (زهرة)؟ لأن الزهرة يراها السامعون التالون للقرآن، فيرون أنها ما تلبث أن تظهر قليلاً ثم تذبل وتنتهي.
وقد قال بعض الصالحين: إنما الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة، حائلة أي: تحول إلى ذوبان وذبول، ونعمة زائلة، وهذا أمر مشاهد محسوس.
قال تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، ولا ريب أن الرزق كله من الله، لكن الإضافة هنا إضافة تشريف، والمقصود برزق ربك: أن الرزق قسمان: رزق لأهل الكفر، وهو من الله لكن لا يضاف إليه إضافة تشريف؛ لأنهم يشوبونه بطرائق محرمة، أهل الكفر والفجور والمعاصي يشوبون رزقهم بطرائق محرمة، فلا ينسب إلى الله، وأهل الصلاح وفي مقدمتهم نبينا صلى الله عليه وسلم إنما رزقه مباح حلال طيب، فلذلك أضيف إضافة تشريف إلى الله: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].