ثمة فوائد يجب استنباطها من هذا الحدث التاريخي الذي مر به بنو إسرائيل: أولها وأعظمها: أن الله إذا أراد ضلالة أحد غشي على بصره وحرمه من استعمال عقله، وإلا فإنه من المحال أن يقال: إن قوماً ينجيهم الله، ويرون البحر يبساً، وتمشي أقدامهم عليه، ثم بعد هذا كله يأتون إلى عجل له خوار يعبدونه من دون الله، هذا من أعظم الدلائل على أن المسألة لا ترجع إلى العقل، وإنما هي هداية من الله ونور يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء.
الأمر الثاني: أن الناس الذين ينصر الله بهم دينه تختلف مشاربهم وقدراتهم، فموسى فيه الغضب والحدة، وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً، وهارون عليه السلام كان فيه شيء من اللين والرفق، وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً، كما كان في الفاروق والصديق رضي الله تعالى عنهما، فإن الصديق كان فيه لين، والفاروق كان فيه شدة، ولما كان الصديق رضي الله عنه يستشير الناس في أمر الفاروق وكانوا يخشون من شدته فكان يقول لهم: إن الذي دفعه إلى هذا أنه يجد في ليناً في ذات الله.
والمقصود: عندما تحاكم شخصين فلا تنظر من هذه الزاوية الضيقة فتقول: إن فلاناً قوي في ذات الله جبار، وتتهم الآخر بالضعف، لكن الدين ينصر بالشخص الضعيف كما ينصر بالشخص القوي، وأحياناً نحتاج إلى الحدة والغضب، وأحياناً نحتاج إلى الحلم واللين، وأحياناً نحتاج إلى دعاء ذلك الرجل العاجز، وأحياناً نحتاج إلى حلم الحليم، وأحياناً نحتاج إلى استنباط الفقيه، فالدين من حيث الجملة ينصره الله جل وعلا بهؤلاء كلهم، كما نصر الله دينه بنبييه موسى وهارون رغم اختلاف شخصيتهما اختلافاً كثيراً.
الأمر الثالث: وهذا مر معنا عرضاً: أن الإنسان لا يحاول أن يصادم أصحاب الرئاسات، وأن المركب الواحد لا يحتمل أكثر من قائد، ولا بد للعاقل أن يتغاضى عن أمور إذا أراد للمركب أن تسير، لكن الإلحاح على المطالب والإصرار على الزعامة، والتنافس في الدنيا، هذا هو الذي يذهب المركب الإسلامي ويجعله عرضة للغرق.
لكن من جعل الله جل وعلا بغيته ورضوان الله جل وعلا غايته، هان عليه كل ذلك في سبيل إعلاء دين الرب تبارك وتعالى، لكنه كذلك ينبغي أن يعلم أن دين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يتخذ غرضاً للدنيا.
الأمر الرابع: أن الذنوب والخطايا التي تكون للعبد -ولا بد منها- يجب أن توظف توظيفاً صحيحاً، فلا يأتينك أحد ينتهز فيك ماضيك وبعض خطاياك فيوظفك فيما يشاء وما يبتغي وما يريد من باب أن ذلك كفارة لما قد عملت، وإنما الإنسان يعلم أن الذنوب والمعاصي ليس لها إلا التوبة، وقد مر معنا قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
هذا جملة ما يمكن أن يقال عن قصة موسى مع السامري، وعبادة العجل من أعظم ما اقترفه بني إسرائيل، ولهذا أمرهم الله جل وعلا بالتوبة، وجعل توبتهم أن اقتلوا أنفسكم.