موقف موسى من أخيه هارون بعد رجوعه إلى بني إسرائيل

ولما جاء موسى في هذه الفترة لم يرتدع بنو إسرائيل، فرجع موسى بعد أن أخبره الله، وكفى بتعليم الله علماً، لكن كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه في المسند وغيره: (ليس الخبر كالمعاينة)، فلما رآهم على هذه الحال يعبدون العجل غضب لله، ولأنه رسول قد ملئ قلبه توحيداً فلا يتصور أن يرى أحداً يعبد غير الله، فألقى الألواح، ولم يلق الألواح زهداً فيها أو استخفافاً بكلام الله، محال أن يفعل هذا أحد الناس من الصالحين، فكيف ينسب إلى ولي الله ورسوله، لكنه فعلها مما أصابه من الحنق والغضب أن يرى أحداً يعبد غير الله! فألقى الألواح، وتوجه مباشرة إلى أخيه، وقد صور الله هذا الموقف وذكر أن موسى كان يأخذ برأس أخيه ويجره إليه، كان الموقف صعباً على هارون لكن هارون كان حليماً، والعرب تقول: إذا عز أخوك فهن، وحياتك مع أصدقائك ورفقائك ومن تحبهم ويحبونك، ويقولون بالعافية: إذا غلب عليك الظن أنهم شدوا فأرخ أنت، ويقول معاوية: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا أرخوها شددتها، وإذا شدوها أرخيتها، وفي رواية أنه قال: أعيش معهم كالحمام، إذا وقعوا طرت، وإذا طاروا وقعت.

فالمقصود: أن هارون لم يلجأ إلى مناكبة أخيه وصده، بل لجأ إلى استلطافه، وأخذ يبحث عن ألفاظ تحرك العاطفة في قلب أخيه، وهارون وموسى أخوان شقيقان، لكنه قال له: ((يَبْنَؤُمَّ))، وأثرها في النفس أكثر من قوله: يا أخي، وإنما ذكره بالرحم العظيم الجامع بينهما وهي الأم ((يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ))، وقال العذر الذي قلناه من قبل: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]، أي: لم تسمع قولي ولم تطعني في أمري.

وينبغي أن تعلم كذلك أن موسى لم يشك لحظة أبداً في أخيه أنه عبد العجل، لكنه كان يتكلم عن سياسة أخيه في الموضوع، فقول موسى لأخيه: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]، لا يقصد منه عصيت أمري في العبادة، فهذا محال؛ لأن هارون نبي مثل موسى، لكن المقصود: عصيت أمري عندما قلت لك: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، و {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف:142]، أي: أصبح زعيماً لهم قائداً ريثما أعود، هذا هو الذي خشي موسى أن يكون هارون قد فرط فيه.

وهنا أمر مهم جداً، فقد قال بعض أهل الفضل، وصرح به الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير، قال رحمه الله: إن الحفاظ على العقيدة أفضل من الحفاظ على جماعة المسلمين؛ لأن مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء، وإن هارون جانبه الصواب في الصنيع الذي فعله.

ونحن نقول: إن قول الطاهر بن عاشور رحمه الله: إن مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء، هذا متفق عليه؛ فلا توجد مصلحة أعظم من مصلحة العقيدة ولا توجد مفسدة أعظم من مفسدة الشرك، لكن محال أن يقال إن هارون جانبه الصواب لأمرين: لأننا نقول: إن الله أمر جملة باتباع هدي الأنبياء فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، ويدخل فيهم هارون لزاماً، ولم يستثن الله حالة لهارون، في حين أن الله استثنى حالة ليونس فقال جل وعلا: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، فهذه الحالة استثناها الله من يونس، وبقي يونس في الجملة يهتدى به إلا في حالة خروجه مغاضباً، أما هارون فلم يستثن الله جل وعلا من هديه شيء هذا أمر.

الأمر الثاني: نقول: لا يعقل في أمر ديني أن يرى أحد من الناس في أمر شرعي يهتدي لرأي لم يهتد إليه رسوله، لا يعقل أن يهتدي من آحاد الناس عالم أو غيره إلى أمر لم يهتد إليه رسول، ونقول: إن هارون كان يعلم أن مصلحة العقيدة لا يرقى إليه شيء، وهو لم يفرط في جانب العقيدة، وإنما الآلية التي يحافظ بها على جانب العقيدة مسألة سياسية، وهي أنه أبقى على قومه مجتمعين ريثما يعود موسى -كما ذكرنا- لعلمه عليه السلام أن السامري اتكأ على حجة أن موسى غائب، فأخذ يقول ويشيع في بني إسرائيل: إن موسى نسي، فإذا جاء موسى سيبطل هذه الحجة التي قالها السامري، وهذا عين ما وقع بعد رجعة موسى.

فنقول: إن تدارك هارون للقضية كان صائباً، ولهذا لم يذكر الله تعنيفاً لهارون؛ بل إن الله ذكر تراجع موسى بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف:151] فاستغفر له ولأخيه؛ مما يدل على أن موسى تراجع عن الحدة التي أصابته في التعامل مع أخيه هارون عليه السلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015