قال الله جل وعلا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65]، من القائل؟ إنهم السحرة، فقد جاء يوم الزينة، وحضر الناس من كل مكان، لا بغية للناس إلا أن يروا الانتصار، وفرعون على الأظهر في مكانه مبجلاً، وموسى وأخوه معهما رب العالمين، وقد قال لهما جل وعلا من قبل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وموسى هو موسى الذي ربي من قبل في جبل الطور، بماذا ربي؟ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17 - 18]، والآن هو نفسه واقف وفي يمينه العصا التي أخبره الله جل وعلا أنها آية، والله جل وعلا أخبره ولا راد لحكمه، ولا معقب على مشيئته، فوقف موسى كما وقف قبل بين يدي ربه، والعصا في يمينه، وأقبل هؤلاء قد أجمعوا أمرهم صفاً، وقد أفلح اليوم من استعلى.
هنا ننيخ المطايا، فلا أحد أكرم من الله، وتعلّم مما يأتي كيف تتعامل مع الله، فإن الله جل وعلا أرحم الراحمين، ومعنى (أرحم الراحمين) هنا: أنه لا يضيع عند الله من المعروف ولو مثقال ذرة، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، وهذا -والله- ليس من فرائد العلم باعتبار أنه غريب ستجده، لكنه من فرائد العلم إذا طبقته.
فهؤلاء السحرة -رغم المغريات التي بين أيديهم- استحيوا من موسى {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65]، وهذه العبارة في التلطف مع موسى وعدم جبره على الإلقاء أولاً، أو عدم جبره على الإلقاء آخراً، وقد جعلها الله جل وعلا سبباً في هداية القوم بهذه النية الطيبة التي خرجت على شكل ألفاظ قد لا يشعر بها أحد، لكن هذا ما أراده الله تمهيداً لعطاء رباني لهم بعد ذلك كما سيأتي.
وفي آية أخرى قال تعالى: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115]، قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، لماذا قال: بل ألقوا؟ أنت عندما تذهب إلى السوق لن تستطيع أن تحكم على أحسن وأجود ما تريد شراءه إلا إذا مررت على السوق كله، فإذا مررت على السوق كله واخترت العينة التي تريدها وجاء أخوك يلومك تقول: إن هذا هو أفضل ما هو موجود، وإذا أراد الله بعبد خيراً أخر ظهوره بين أقرانه حتى ييأس الناس من كل أحد، ويخرج أقرانه كل ما لديهم، فإذا أراد الله بعبد من دونهم فضلاً زائداً عليهم نثر كل منهم ما في كنانته، وأظهر ما عنده، ولم يبق شيء لم يقدمه، ثم أخرج الله جل وعلا وليه الذي يريد أن يقدمه على غيره، فهذا حصل عيناً في قضية موسى، فقد قال لهم موسى: بل ألقوا، فما من حبل ولا عصا إلا وألقوها، وليس الأمر بالهين، قال الله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}، أي: إلى موسى: ((مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)).
وقول الله جل وعلا: ((يُخَيَّلُ)) يدل صراحة على أنها لم تكن تسعى، وهذا سحر تخييل، وهو أحد أنواع السحر المذكورة في القرآن، وقد ذكر الله في القرآن سحر التخييل، وصورته: أنك ترى الشيء على غير حقيقته بما يريده الساحر أن تراه، وإلا فالأصل أن حقيقة الأمر الذي ترى أنت غير موجودة، فهي حبال وعصي، لكن موسى يخيل إليه أنها تسعى، وبالقطع ما دامت تخيل إلى موسى وأخيه فكيف بالعامة والدهماء الذين يحيطون بحلبة الصراع، سوف سيرون أموراً عجيبة، وقد ذهب بعض المشايخ من الجامعة الإسلامية إلى أحد البلدان الأفريقية، فوجدوا رجلاً معه جمل، والناس يلتفون حوله، فكان هذا الرجل يدخل من دبر الجمل ويخرج من فمه، والناس ينظرون مفتونون، فأحد هؤلاء المشايخ مع زملائه رجع قليلاً عن نفس المكان، ثم قرأ آية الكرسي وهو يتممها وقف لينظر، فوجد الرجل يدخل بسرعة من تحت أرجل الجمل، مع أنه قبل قليل رآه يدخل من الدبر ويخرج من الفم، فأخبر من معه من زملائه الذين ذهبوا للدعوة الخبر، فذهبوا وقرءوا آية الكرسي ورجعوا فرأوا هذا المسكين يمشي بين يدي الجمل ورجليه، ولا يدخل فيه أصلاً؛ لأنه عقلاً مستحيل أن يكون دخل في الجمل، لكنه سحر أعين الناس، وهذا سحر التخييل حجب عن هؤلاء الفضلاء بالآية العظيمة آية الكرسي، وقد ورد في فضلها ما لا يخفى على الكثير، والمقصود أن هذا سحر التخييل.
والسحر الآخر قال الله عنه في سورة البقرة: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة:102]، أي: من الملكين {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، فذكر الله جل وعلا سحر التفريق بين المرء وزوجه، وأن هذا يقع، لكن الله ذكر أنه مقيد بإذن الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يقع شيء لا قدرياً ولا شرعياً إلا بإذن الرب تبارك وتعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، وكل السحر ضرر، والله يقول: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة:102].
خلاصة الأمر: أني أجمع شتات معاني الآيات في أن السحر في القرآن جاء على صورتين: سحر تخييل، وسحر تفريق، ولا أذكر هناك نوعاً ثالثاً موجوداً هنا، وقد ذكر بعض الفضلاء أنواعاً أخر، لكن لا أعلم لها دليلاً من كتاب الله.
الذي يعنينا أن الله جل وعلا يقول: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} [طه:66]، أي: يخيل إلى موسى ((أَنَّهَا تَسْعَى))، أي: تتحرك.