وقد ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم ما يفرح به، أن يجيب الله جل وعلا دعاءك وإجابة الدعاء من أعظم العطايا؟ ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مقروناً بحرف التحقيق: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، ثم أخبره أن هذه ليست أول منة عليه.
والمراد من هذا أن نقول: إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان، لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية، ووالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بغية شيء إلا وأعطاه الله جل وعلا إياه إذا كان يريد بذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله، وليس له فيه أو لغيره حظ ولا نصيب.
قبل أيام كان عندي أخ فرنسي الأصل والمولد والمنشأ، له سبع سنوات عندنا في المدينة وهو دائماً يحضر الدروس، هذا الأخ الكريم يقول: نشأ في بيت أبواه ملحدان، حتى النصرانية التي هي ذائعة في فرنسا لا يؤمنان بها، ويبغضان الله، ولا يؤمنان أصلاً بوجوده.
يقول: لما وصلت إلى الثانية عشرة من العمر كنت أسألهما عن الدين فينهراني، فلما أكثر عليهما طلبا منه أن يبحث بنفسه، يقول: فدخلت كنيسة فأعجبني ما فيها، فتنصرت فأصبحت نصرانياً، وكنت أجيد الرياضة، فاشتركت في ناد رياضي اقترنت مشاركتي بهذا النادي مع مسلمين من أصول عربية، قال: كانوا يلعبون الحركات الرياضية على الموسيقى، فإذا انتهوا صلوا.
يقول: فكنت أتعجب من صنيعهم وأنا أبحث عن الحق، ثم تعلمت عنهم الدين فكان ذلك سبباً في إسلامي.
هذا كله ليس بعجيب، فهو يتكرر عليكم مئات المرات، لكن الغرابة أن له جدة تعمل في التنجم، فأتاها وهو صبي قبل أن يسلم في أيام المراهقة فقالت له من خلال تنجيمها: أنت ستجد الحق الذي تبحث عنه.
يقول: فلما هداني الله إلى الإسلام أتيتها وقلت: ألا تذكرين يوم كذا وكذا؟ قالت: نعم، قال: أبشرك لقد عرفت الحق وأن هناك رباً وديناً اسمه: الإسلام، وأخبرها الخبر، فزاد بغضها له، وأخذت تسبه وتلعنه، وتسب الدين الذي انتسب إليه، ثم تركها وجاء يسألني في قضية كيف يبرها باعتبارها جدة له إذا وصل إلى بلاده؟ موضع الشاهد من هذا كله أن الله يقول: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور سواء النور العام الذي هو نور الإسلام، أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات أن يكون مرتبطاً بحسن المقصد، ويكون الإنسان همه وبغيته أن يصل بهذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله.
وقد يمكن أن من يبتغي بالأمر الذي ينشده غير الله أن يصل إلى الذي يريده، لكن مثل هذا لا يعد إماماً في الدين؛ لأن الله جل وعلا منع الإمامة في الدين للظالمين، ولا ريب أنه ظالم لنفسه، من أراد بالدنيا غير وجه الله، ومن أراد بالعمل الصالح وبعمل غير وجه الله، والله قد قال لعبده وخليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، فقال متلهفاً من أجل ذريته: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124]، فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، أي: هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم، فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلمه أو بأي أمر آخر أحداً غير الله تعالى.
لكن الإمام في الدين الحق هو من ابتغى بعلمه الله جل وعلا وحده، ولم يستشرف ولم يشرئب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى، فما أتاه من الدنيا يتحرز منه، وقد تنقل له رؤى ومنامات تحكى عنه، ويمدح، ويقول الناس فيه ما يقولون، وأن الله كتب له القبول وأمثال ذلك، فليأخذها على حذر خوفاً من أن تكون استدراجاً؛ فإن العبد لا يدري بماذا يختم له.
هذا التكليم الذي حدث في سورة طه لموسى جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة طه يسمونها: سورة الكليم، لكن هذا وقع عند بعض المفسرين، أما الاسم التوقيفي لها فهو: سورة طه.