من المعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا، ولم يدر في خلده أنها ستنقلب إلى حية، فيقول النحويون: إن هذه هي (إذا) الفجائية وما بعدها حقه عند جماهيريهم أن يرفع، ولهذا قال الله: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف:108]، بيضاء: خبر، وقال هنا: ((فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)) [طه:20]، بالضم.
فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل: إن الأصل فيما يأتي بعد إذا الفجائية أن يكون مرفوعاً، وهذه المسألة تسمى المسألة الزنبورية، وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمل مجداً في بغداد، فدخل على يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام، والخلافة فيها موطن الناس، فجاء يؤمل مجداً عظيماً، وكان إمام أهل البصرة بلا منازع، والكسائي إمام أهل الكوفة، فالتقيا - الكسائي وسيبويه - في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وعنده ابنه جعفر، فقال الكسائي لـ سيبويه: تسألني أم أسألك، قال: سلني.
فذكر الكسائي هذه المسألة وهي ما يقع بعد إذا وأنه يجوز فيها الوجهان: الرفع والنصب، فمنع سيبويه أن تكون العرب تقولها بالنصب، وأنه ليس لها إلا وجهاً واحداً هو الرفع، والقرآن يؤيده، لكن الكسائي أصر على رأيه، فقال يحيى بن خالد: اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه وجوه الأعراب في الباب اسألهم، فقيل: إن المسألة أصلاً كانت سياسية قبل أن تكون علمية للتنازع ما بين الكوفة والبصرة، والتنازع ما بين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قربة عند السلطان.
فوجوه الأعراب مالت إلى قول الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه، فأشاروا إلى أن الصواب مع الكسائي، فبهت سيبويه، وزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول لـ يحيى: إنه جاء يأمل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه، فجعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو، فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء ما لحق به، واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً ولحق بفارس ثم مات مغتماً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره.
ومعلوم أن الحق كان مع سيبويه، لكن السياسة لعبت دورها، والقرآن كله يشهد أن الحق مع سيبويه، وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه، وكلها باطلة، وقد بينها أهل النحو، ولا حاجة للتفصيل فيها.
ثم قيض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له: أبو محمد اليزيدي، هذا اليزيدي دخل على الكسائي في مناظرة في مسألة أخرى، وذلك أنه جاء ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس أمام الكسائي، وقال له: هل تجيز هذا فسأتلو عليك البيتين؟ ومعلوم أن العرب ترفع اسم وتنصب خبرها، وهذا شيء متفق عليه، فليست هذه من مسائل العلم الكبار، بل يعرفها كل واحد، فقال اليزيدي للكسائي: ماذا تقول في قول العرب: ما رأينا خرباً ينقر عنه البيض صقر لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهر ومن المعلوم أن (لا يكون) تكررت مرتين، وهي التي أرادها مزلقاً يقع فيه الكسائي فوقع فيه، فـ الكسائي فهمها بأن اليزيدي يقول: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، وهذا هو أصلها النصب، واليزيدي نطقها: لا يكون المهر مهر، اليزيدي: قصد لا يكون العير -أي: الحمار- لا يكون العير مهراً لا يكون.
وهنا انتهى الكلام، ثم قال: المهر مهر، وهما مبتدأ وخبر وكلاهما مرفوع، لكن الكسائي قرأها: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، فوجدها منصوبة، فرد البيتين وقال: لا يكون المهر مهر، هذا خطأ؛ بل أحقها أن تنصب ولا تجوز إلا لضرورة الشعر، وعبر عنها باصطلاح يسمى: الإسراف عند البعض والإقواء عند البعض، عند العروضيين، ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي، فصار يعيد عليه ويقول له: انظر، والكسائي مصر، مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي، لكن إذا أراد الله شيئاً وقع، فكررها مرتين وثلاثاً وهنا وقع الكسائي في الخطأ، فلما أصر الكسائي على رأيه، وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد؛ خلع عمامته وقلنسوته وضرب بها الأرض فرحاً، وضرب بيده على صدره وقال: أنا أبو محمد!! يعني: انتصرت، فقال له يحيى بن خالد: والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قلنسوتك من رأسك؟! يعني: أن هذا سوء أدب، لا يفعل أمام أمير المؤمنين، فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل، هذا ما دونه المؤرخون.
وأقول -عفا الله عني-: نصر الله الكسائي بالقرآن، فالذي يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين، فنصره الله في المرة الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع أوجهه، وهذه المرة عندما وقع اليزيدي في سوء الأدب فبقي هو على حشمته ووقاره فكان سبباً في نصرته.
الذي أريد أن يفهم من هذا الاستطراد أمور من أهمها: لا تبدأ أحداً بالأسئلة، دع خصمك هو الذي يبدأ، فإذا غلبت في الرد على خصمك فوق يقولون: حول الجواب إلى سؤال، فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت، هذا إذا كنت تريد موارد أهل الدنيا، أما إذا كنت تريد موارد الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلا وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق، وقد كان الشافعي رحمة الله تعالى عليه -لكن أين مثل الشافعي؟! - كان يقول: ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه، وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله إلى هذه المنزلة العالية من حب المسلمين أو يكاد إجماع المسلمين على حبه.
هذا في الأخذ والعطاء، لكن قد يحصل بين الأنداد عموماً التنازع، ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد حتى لا يقع بينهما تنازع.
فمالك رحمه الله على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لـ محمد بن إسحاق صاحب السيرة، وكل منهما جليل القدر في فنه، عظيم الأثر في علم الأمة، وإن كان مالك نحا إلى علم الحديث وهو أشرف من هذا الوجه.
فيقولون: إن مالكاً كان يقول عن محمد بن إسحاق: إنه دجال من الدجاجلة، وذلك لأجل الروايات التي يقولها في التاريخ، ومحمد بن إسحاق كان يقول: ائتون بالموطأ فأنا بيطاره -يعني: طبيبه- أبين لكم أخطاء مالك في الموطأ، ومعلوم أنه لا يقبل قول مالك في محمد بن إسحاق، ولا يقبل قول محمد بن إسحاق في مالك، لكن يوجد من أهل العلم من من الله عليه ببغية الحق أينما كان، حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله جل وعلا فيهم، ولا يمنعنه كونهم أنداداً له ومعاصرين له أن يترفع عليهم، أو أن يقول فيهم بغير وجه حق، لكن هذه منزلة العالية ليس الكل يؤتاها.