تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذٍ لا يستطيعون سمعاً)

ثم ذكر الله جل وعلا بعضاً من مراتب أهوال اليوم الآخر فقال جل شأنه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100] اللام هنا للكافرين، بمعنى على، وهو استخدام عربي معروف دل عليه ما ورد من آيات أخر مثل قول الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، فاللام هنا بمعنى: على أي: عرضنا جهنم على الكافرين، كما أن الكافرين يعرضون على النار، فكل من جهنم وكل من الكافرين يعرض أحدهما على الآخر نكاية بهم، الله يقول: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:72]، والوعد لا يكون إلا في الخير لكن المخاطب ليس الكفار فلم يقل الله: وعدت الذين كفروا النار، ولا قال: وعدت النار الذين كفروا، وإنما قال الله: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:72] وإلا فإن الوعد يستخدم للخير في الأصل.

نعود فنقول: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100] وهذه أول مراحل العذاب، واللام هنا بمعنى على وهو استخدام عربي معروف وقد جاء في بيت شعر عربي عجزه: فخر صريعاً لليدين وللفم والمعنى خر صريعاً على يديه وعلى فمه، فعبر باللام نيابة عن: حرف الجر على.

قال الله جل ذكره: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100] وهؤلاء هم الكافرون {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101]، ومعلوم لكل أحد أن هؤلاء الكافرين المخاطبين في الآيات القرآنية كانوا يسمعون وكانوا يبصرون لكنهم لم يكونوا ينتفعون بأبصارهم ولم ينتفعوا بأسماعهم كما قال الله: {أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179].

وقد تقرر عقلاً أن الجارحة إذا لم تفد صاحبها فهي كالعدم، فمن كانت له قدمان لا يستطيع أن يمشي عليهما فكأنه ليس له قدمان، ومن كانت له أعين لا يرى فيها بعين بصيرته مخلوقات الله جل وعلا ويستدل بها على عظمة ربه ووحدانيته في المقام الأول فهو كمن ليس له عين أصلاً، ومن كانت له أذن وهو لا يعتبر بالقرآن ولا يتدبره ولا يتذكره ولا يسمعه ولا ينتفع بما يسمع من المواعظ والأحاديث والذكر فكأنه لا سمع له أصلاً، وسنقرر هنا مسألة إيمانية عظيمة وهي من فرائد ما ينقل، ونقول من الآية ومن غيرها: وهذه حري بها أن تفهم ويعمل بها: أن الله جل وعلا حجب عنا جميعاً في الدنيا ذاته العلية، ومكننا من رؤية مخلوقاته، فالله لا يرى في الدنيا، ومكننا جل وعلا من رؤية مخلوقاته، فمن رأى تلك المخلوقات بعين البصيرة واستدل بها على ربه جل وعلا وعرف الله من خلالها ووحده وعظمه وأجله فإنه يرى ربه في الآخرة بعينه الباصرة، ومن لم تدله بصيرته على عظمة الله ووحدانيته وجلالة خلقه جل وعلا وقدرته على الخلق بعين بصيرته فإنه يحرم يوم القيامة لذة النظر إلى وجه الله بعينه الباصرة، قال الله جل وعلا عن أهل النار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وقد قدمنا مراراً في دروس عدة أنه لا عذاب أشد وأنكى من أن يحرم أهل النار من رؤية وجه الواحد القهار، ولا عطية لأهل الجنة أعظم من أنهم يرون وجه العلي الأعلى جل جلاله، قال الرب تبارك وتعالى ممتناً عليهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] من النضرة بسبب أنها {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]؛ لأنها تبصر وترى وجه ربها العلي الأعلى.

على هذا يفهم أن السمع والبصر من الجوارح التي من الله جل وعلا بها على خلقه، من استعملها استعمالاً صحيحاً دلته على الله قد انتفع بها، أما من كتب الله عليه الشقاوة وجعل على بصره غشاوة، وختم الله من قبل على قلبه وسمعه فهذا كمن لا سمع له ولا بصر ولا قلب، قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015