إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: سنعرض في هذا اللقاء المبارك إلى ما بقي لنا من آيات من سورة الكهف من قوله جل شأنه: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] إلى آخر السورة المباركة وهي قول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
وسورة الكهف قد مضى الحديث عنها في اللقاءات السابقة تفصيلاً وانتهينا إلى خبر الملك الصالح ذي القرنين، وقلنا فيما سلف: إن العلماء اختلفوا فيه: هل هو نبي أم غير نبي؟ ورجحنا التوقف في المسألة؛ لما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟)، وما دام رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه توقف في أمر ذي القرنين فحق على حملة العلم من بعده أن يتوقفوا، وإن كنا نقول: إن ظاهر القرآن يدل على أنه نبي.
وهذا الملك الصالح بنى سداً سمي في القرآن ردماً، والطلب التي تقدمت به تلك القبائل عبروا عنه سداً لكنه عبر عنه بالردم، وهذا الردم كانت الغاية منه أن يصد دخول قبائل يأجوج ومأجوج من الإفساد في الأرض، فاستعان ذو القرنين بعتاد أولئك القوم بأن يعينوه ورتب بناء ذلك الردم وسد تلك الفجوة ثم بعد أن فرغ منها وانقطع الشر وسد البأس قال لهم: {هَذَا} [الكهف:98] أي: الذي بنيته ويشير إلى الردم {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98]، ووصفه بأنه رحمة؛ لأن الله جل وعلا منع به الأذى، والرحمة كلمة واسعة وهي: كل ما كان سبباً في حصول مرغوب أو دفع مرهوب.
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98] وهذا من أدب ذي القرنين مع ربه أنه نسب هذا الأمر إلى الله ولم يشر إلى ذاته أو إلى نفسه طرفة عين.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} [الكهف:98] والمقصود بوعد الله هنا: قرب قيام الساعة، ويؤيده قول الله جل وعلا في الأنبياء: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:96 - 97]، فرتب الله جل وعلا اقتراب الوعد الحق على خروج قبائل يأجوج ومأجوج، وأن خروجهم من أعظم أمارات الساعة وأشراطها كما مر معنا في أخبار عديدة، وسيأتي تفصيلاً في موضعه ومنهجنا في التفصيل أننا لا نستطرد كثيراً في خبر نعلم أنه سيأتي الحديث عنه في حينه.
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] وهذا يحتمل أمرين: إما أن يدك على يد يأجوج ومأجوج عندما يحفروه وهذا الذي نميل إليه.
وإما قصد ما يحدث في الأرض من تغير معالمها عند قيام الساعة، والأول أقرب، قال صلى الله عليه وسلم وقد نام عند زينب بنت جحش قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب) أراد الأمة كلها عرباً وعجماً؛ أراد من كان على الإسلام، لكن الحديث فيه دلالة ظاهرة صريحة على أن العرب هم مادة أهل الإسلام، وهذا النوع من الافتخار لا ينافي ما جاء في الشرع من النهي عن الفخر؛ لأن الإنسان إذا تكلم عن مادة الأشياء فإنما يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وعليه يقاس قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: (أنا النبي لا كذب) ثم قال مفتخراً: (أنا ابن عبد المطلب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا ابن عبد المطلب) لا يلزم منه التعالي على غيره وإنما الإخبار بأصل مادته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا إن شاء الله من جنسه.
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] (حقاً) نصبت؛ لأنها خبر لكان، أي: أنه لا ارتياب ولا شك في أن وعد الله الذي أخبر عنه سيأتي؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يرد ما قضى الله جل وعلا وقدر أن يكون.