ثم شرع الخضر يبين لموسى عليه السلام هذه القضايا، ويحل العقد واحدة تلو الأخرى.
قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ} [الكهف:79] أي: السفينة التي خرقتها، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] واللام للملك، فالذي يملكون هذه السفينة هم المساكين، والمسكين من عجز على أن يجد لنفسه دخلاً يوافق مصروفه من حيث الجملة، واختلف أيهما أشد فقراً الفقير أو المسكين، مع الاتفاق على أنهما من ذوي الحاجات، والأظهر والعلم عند الله أن الفقير أشد فقراً من المسكين، بدليل تقديم الله له في أصناف الزكاة الثمانية المستحقين لها، قال الله جل ذكره: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60].
والمقصود أن الخضر قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] أي يؤجرونها، {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] بخرقها، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، (كل) من ألفاظ العموم، مرت معنا مراراً، وظاهر كلام الخضر عن الملك أن الملك يأخذ كل سفينة صالحة وعرفنا أنه لا يأخذ المعيبة، أنه لو كان الملك يأخذ كل سفينة صالحة وغير صالحة لما احتاج أن يخرقها.
وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] نص في موضع الخلاف، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] أي: ظلماً وتجبراً، كلمة: (وراء) جاءت في القرآن على عدة معان، من أشهرها ثلاثة، وراء بمعنى أمام: زمانياً ومكانياً، أما بمعنى أمام زمانياً قول الله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] يعني: هذا في مستقبل أيامه، فحياة البرزخ، والعذاب المتوعد به أهل النار، لم يأت بعد، وإنما هو أمام المتوعد به، هذا ظاهر.
وأما وراء بمعنى أمام مكانياً فدليلها الآية التي بين يديك، يقول الله جل وعلا على لسان الخضر: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، ومعنى وراء أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فأول معاني وراء في القرآن بمعنى: أمام، وتأتي بمعنى: خلف، وهو الأصل في استخدامها اللغوي، تأتي بمعنى خلف، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود:92]، وظهر الإنسان خلفه وليس أمامه، فقوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود:92] نص في أنها تأتي بمعنى خلف.
بقيت أشهر معانيها والتي تأتي بمعنى غير أو بعد، قال الله تعالى في النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، ثم ذكر المحصنات، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُ} [النساء:24] أي: ما بعد ذلك، وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:5 - 7] أي: غير ذلك {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، وهذا يدل -كما قلنا- على بعض المعاني التي تأتي عليها كلمة وراء في القرآن.
فهذا السبب الأول، وأنت تلحظ أن الخضر عليه السلام أسند فعل العيب إلى نفسه فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79].
الآن قضية لماذا خرق السفينة حلت أمام موسى، والمسكين قلنا: أسند إليهم ملك السفينة وسماهم مساكين، فعلى هذا لو أن إنساناً -وهذا يأتيك في باب الفقه في الزكاة- مصروفه أكثر من دخله فإنه يعد مسكيناً، من كان مصروفه العادي من غير سرف ولا مخيلاء أكثر من دخله الثابت المتوقع شهرياً أو سنوياً يسمى مسكيناً.
هذا خبره مع السفينة.