ثم قال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، (الناس) هنا عموم مراد به خصوص، أو عام أريد به الخاص، والمقصود: كفار قريش.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الكهف:55]، وسنة الأولين: أن الله جل وعلا أهلكهم بهلاك الاستئصال، كما أهلك عاداً وثمود، وقوم لوط وغيرهم.
{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، لها معنيان: قبلاً بمعنى مقابل أي: مواجه، و (قبل) تكون جمع لقبيل، والمقصود متنوع، والمعنى: ألوان من العذاب: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، أي: ذا ألوان وأنواع متعددة.
ثم بين الله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الكهف:56]، والمعنى: أننا لن نبعث الرسل ليطلب منهم قومهم العذاب، فهذا خلاف ما كلف الله به الرسل، ولا شأن للرسل لهم به، إنما بعثهم ليبشروا ولينذروا في آن واحد، وما بعثهم ليطلب منهم عذاب أو غير عذاب، لكن الناس إذا جاءهم الرسول خرجوا عن الطريق الذين يخاطبون به، ولا يقبلون بشارة، ولا يخافون نذارة، وإنما أخذوا يطلبون من الرسل العذاب، وهذا خلاف المقصود من إرسال الرسل.
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف:56]، وهذا هو نوع من الجدال المذموم: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56]، فقد بعث لهم الآيات، وصرفت لهم الآيات، وبعث لهم النذر لتكون طرائق ومعالم تهديهم إلى الحق، فقلبوا ظهر المجن، ولم يفقهوا التعامل معها، وجعلوها هزواً، فقد سخروا من القرآن فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، وسخروا بمن نزل عليه القرآن فقالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، وكلا الحالتين جعلوا من القرآن ومن الرسول مادة هزو لهم، وهذا لا يضر إلا إياهم، نقول: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56].