تفسير قوله تعالى: (وترى الشمس إلا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فنستكمل في هذا اللقاء المبارك ما كنا قد بيناه من الحديث عن أصحاب الكهف، والسورة التي نحن معنيون بها في هذه اللقاءات المتتابعة هي سورة الكهف، وقد مر معنا أنها سورة مكية وأنها تعرضت لجملة من القضايا، وأن قراءة أولها يعصم الله جل وعلا به من فتنة الدجال، وأن من السنة أن يقرءها المؤمن كاملة يوم الجمعة.

وقد وصلنا إلى إن أصحاب الكهف تنادوا مع بعضهم البعض وقالوا: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] فهم أخذوا بالأسباب وتوكلوا على الملك الغلاب، وهذا ما انتهى إليه حديثنا في اللقاء الماضي.

قال الله جل وعلا: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] الآيات بينها وبين السابق ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز حذف، وإيجاز الحذف في هذه السورة: أن الله لم يذكر أنهم اتفقوا على الكهف، ولم يذكر مسيرهم إلى الكهف، وإنما أتى بالخطاب مباشرة: أن الشمس تطلع عليهم فيحفظهم بذلك.

ومعنى هذا أنها اتفقت كلمتهم على أن يذهبوا للكهف، ومفهوم الآيات أنه كان معهم كلب في طريقهم إلى الكهف؛ لأن الله ذكر هذا الكلب بعد ذلك، لكن هل كان الكلب لأحدهم مسبقاً أو أن أحداً انضم إليهم ومعه كلب؟ هذا أمر لم يبينه الله ولا حاجة إلى أن نتكلف، لكن الذي يعنينا أن هؤلاء الفتية ضرب الله على آذانهم في الكهف.

ثم طوى الله لهم الأيام والسنين ليبين لنا ماذا حصل في الكهف وهؤلاء الفتية آمنون فيه.

العجيب في القضية كلها أو الذي ينبغي أن يفهم أنه إذا أراد الله جل وعلا أن يحفظك فنم مطمئناً.

فخصومهم الآن يبحثون عنهم، وينفقون الأموال في الوصول إليهم، ويتهددونهم ويتوعدونهم، ولا يوجد أحد مغيب مثل النائم يُتمَكن منه أكثر من غيره، ومع ذلك كانت تحيطهم عناية الله، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، بل إن الشمس وهي تسير بقدر الله ويحصل منها إيذاء لمن تعرض لها تعرضاً غير حميد وتصدى لها، ومع ذلك حتى الشمس لم تستطع أن تنالهم بأذى؛ لأنهم في حفظ وكنف الرحمن جل جلاله.

صور الله ذلك الموقف بقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ) أيها المخاطب بكلامنا! (إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ).

تقول في اللغة: جاءني زائر، والزائر في الأصل أنه متوجه إلى بيته، لكن عندما مال إليك وأعطاك وجاءك سمي زائراً، فالزور في اللغة أصله: الميل، قال عنترة: فازورَّ من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحمِ وعنترة أحد الشعراء الجاهليين من أصحاب المعلقات، ومعلقته مطلعها: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم وهو عبسي ينسب إلى أمه من حيث الرق والعبودية، فالمولود ينسب إلى أبيه ديانة فلو أن رجلاً مسلماً تزوج نصرانية أو يهودية فحملت منه فولدت فمات الصغير فإنه يدفن في مقابر المسلمين، وإن كان لا دين له، يعني: ليس له دين ظاهر ولم ينطق بالشهادتين، لكن يعد في أطفال المسلمين؛ لأنه ينسب لأبيه ديانة، وينسب إلى أمه رقاً أو حرية، وفي غير بني آدم فإن الحيوان ينسب إلى أخبث أبويه طعاماً، فالبغل - مثلاً - نتاج عن تزاوج الخيل والأتان وهي: أنثى الحمار، فالخيل مباح أكل لحمها، والأتان محرم فينسب طعمة إلى أمه، فلا يجوز أكل البغل.

قال عنترة وهو يتكلم عن خيله: فازورَّ من وقع القنا أي: الرماح، بلبانه، يعني: بصدره، وهي مقدمة رقبة الخيل، أي أن الفرس عندما تأتيه الرماح يميل ميمنة ويسرة.

الذي يعنينا هنا أن الازورار بمعنى: الميل.

فنعود للآية: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ) أي: تميل عنهم ذات اليمين.

(وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) المقراض هو: المقص الذي يقطع، والمقصود تنقطع عنهم.

(تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ) أي: أصحاب الكهف.

(فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي: في مكان متسع.

قال الله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قال العلماء: هذه قرينة على أن الأصل أنه ينبغي - بسبب وضع الكهف - أن يصيبهم حر الشمس، لكن لما صرف الله عنهم الشمس حال طلوعها وحال غروبها ألا تصيبهم بأذى، عُدَّ ذلك آية من آيات الله.

وقال آخرون: إن الأصل في وضع الكهف ألا يصيبهم منه وهج الشمس، وفسروا قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قالوا: إن نبأ أصحاب الكهف من آيات الله، لكن القرينة ألصق وأقرب في ظننا والعلم عند الله إلى أن المقصود أن ازورار الشمس وقرضها عنهم إنما وقع بقدر الله جل وعلا ولطفه لهذه الفئة المباركة.

قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) وهنا ننيخ المطايا؛ لأن الله لا يقول: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17] لنمر عليها سريعاً، ولا بد من العلم أن لله جل وعلا آيات تدل على عظمته، من وُفِّق لإدراكها وفهمها، ونظر إليها بعين البصيرة - ومن ذلك: نقمة الله من خصومه، ورحمته بأوليائه - فهذا تعظم خشيته من الله، ويعظم توكله على الله.

ألا ترى إلى هاجر لما أوكلت أمرها إلى الله أخرج الله ماء زمزم فرجاً لها وكرامة لإسماعيل؟! ولما قبلت وقالت لخليل الله إبراهيم: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، وغدت سبع غدوات تغدو وتروح بين الصفا والمروة تبحث لابنها عن ماء جعل الله ذلك الممشى لا يضيع هباء منثوراً، فمشى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على نفس الممر والمعبر والطريق الذي مشت عليه هاجر، فهذا آية من آيات الله وهي: أن الله لا يضيع أهل طاعته.

وعلى النقيض: فإن من عاداه جل وعلا وحاربه ونازعه أوكل الله جل وعلا إليه من أصناف العذاب ما يجعله عبرة لغيره.

ثم قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ) (من) شرطية.

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف:17] إذاً من لم يهده الله فلن يكون مهتدياً.

{وَمَنْ يُضْلِلْ} [الكهف:17] شرطية أيضاً.

{فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] وأين يكون المرشد وأين يكون الولي والله جل وعلا قد تخلى عنه، وهذا المفهوم الحقيقي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه الذي علمه الحسن: (ولا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015