ثم قال الله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58] هناك قيد لا بد من وجوده دلت عليه قرينة، فقوله: وإن من قرية أي: (كافرة) فلا بد من هذا القيد الذي فهمناه من سياق القرآن، والقيد أحياناً نأتي به إما لقرينة قريبة أو قرينة بعيدة، نأتي بمثال على القرينة القريبة: الله جل وعلا يقول في سورة الكهف: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] فقيد لازم: أن نقول في كل سفينة (صالحة)، والقرينة: أنه قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] وإلا فلا فائدة من أخذه لكل سفينة.
وهنا القيد غير موجود في الآية، لكنه بعيد نسبي، يعني: في آيات أخرى ليس في نفس السورة، قال الله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء:58] وقد دل القرآن على أن الإهلاك بمعناه الشديد أو العذاب النازل لا يكون إلا على أهل الظلم، قال ربنا: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59]، وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فكلها دلائل وقرائن على أن الإهلاك لا يقع إلا على قرية ظالمة كافرة، فإن سئلنا: لماذا أتينا بهذا القيد؟ قلنا قرائن القرآن تدعو إليه {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58] أي: أن من أرسلنا له آيات -كما سيأتي- واختبرناه وبلوناه وبقي على ظلمه وكفره أهلكناه، إما بالإهلاك العام، أو بالإهلاك الجنسي: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58].
ثم قال الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:59] والتقدير: فأهلكناهم، {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] والمعنى العام: أن قريشاً طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم آية وقالت: أنت تزعم وتقرأ علينا في كتابك أن الأنبياء من قبلك يأتون بالآيات فنحن نطلب آية: وهي أن تجعل لنا الصفا ذهباً، وأزح عنا الجبال حتى تكون أرضنا أرض زرع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ذلك، فجاءه جبريل يخيره بين أن يجعل لهم الصفا ذهباً ويحقق لهم أمانيهم، لكنهم إن لم يؤمنوا أهلكهم عن بكرة أبيهم.
وقد علم الله جل وعلا أن هذه الأصلاب الكافرة سيخرج منها أقوام يدعون إلى الله، فـ الوليد بن المغيرة والقرآن يذمه ليل نهار خرج منه: خالد بن الوليد، وأبو جهل نظيره خرج منه عكرمة بن أبي جهل، والخطاب كان كافراً وخرج منه عمر، وأكثر الصحابة كان آباؤهم مشركين، فاستمهل صلى الله عليه وسلم وانتظر ورضي أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً؛ لأن النبي بما أنه خاتم الأنبياء فلا بد أن يكون له أتباع يحيون بعده ويحملون دينهم، وحفظ النوع من البشر والناس يكون بالتوالد والبقاء، فإهلاكهم عن بكرة أبيهم ضياع لجيل سيأتي بعدهم يحمل تلك الراية، فأبقاهم الله جل وعلا لسببين: إما لفئام ستؤمن منهم كما وقع لأكثر الصحابة كـ أبي سفيان وغيره، وإما من مات منهم سيدرك ابنه الكبير فيؤمن بالله جل وعلا فيصبح ناصراً للدين، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنحى، وهذا ما فطر عليه -عليه الصلاة والسلام- من شفقة ورحمة على المؤمنين وأهلك قومه في الأرض نوح بدعوة لا تذر أحداً فأفنى ودعوة أحمد ربي اهد قومي فهم لا يعلمون كما علمنا نعود لما نحن فيه: الله يقول جل وعلا: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59]، هو لا يريد أن يقول: إن هذه الناقة تبصر، لكن معنى الآية: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59] أي: ذات دلالة واضحة، لكنهم -كما هو معلوم- كفروا بها كما حرره القرآن في مواضع أخرى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59].