ثم قال الله بعدها: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2] وموسى هذا: موسى ابن عمران، والكتاب هنا: التوراة بالإجماع، {وَجَعَلْنَاهُ} [الإسراء:2] أي: التوراة، {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2]، وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإليه ينسب أبناؤه فيسمون بني إسرائيل، والذين منهم موسى عليه الصلاة والسلام.
قال: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء:2] أي: وقلنا لهم: لا تتخذوا من دوني وكيلاً، ومن هنا يفهم: أن اللواء الأعظم الذي حمله الأنبياء عبر التاريخ البشري كله هو: ألا يعبد أحد من دون الله جل وعلا، وهذا يعيدنا إلى الآية الأولى؛ لأن من أخطائنا في دراسة السيرة: أننا ندرس الإسراء والمعراج لنبين مقام نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا حق، لكن ينبغي قبل أن نعرف الناس بفضل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم وبيان مكانته أن نبين عظيم قدرة الله جل وعلا، وحتى يشعرك -وهذه هي الغاية من ذكر الإسراء والمعراج- أن أولياء الله لا يمكن أن يكون عليهم خوف ولا حزن، أنت تقوم الليل وتقول في دعائك: اللهم إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، وهذه الأخيرة فقط استمسك بها جيداً وتأمل دائماً وأنت تراجع معنى: ولا يذل من واليت، فكل مكان دخلته، وكل طريق سلكته، خفت فيه من الذل لن ينالك ذل إن كان وليك الله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه إلا الأعمال الصالحة، وأنا أعرف بعض من أثق في رشدهم إذا دعوا يقولون: اللهم ارزقنا رضاك؛ فإنه لا يضر مع رضاك سخط أحد، وارزقنا ولايتك؛ فإنه لا يذل من واليت، فإذا تولاك الله فلا يمكن أن تذل أبداً.
فنبينا صلى الله عليه وسلم ضربته العرب عن قوس واحدة، فأكرمه الله جل وعلا بهذه الكرامات الجليلة حتى نفقه -عندما يخبرنا الله بها- أي خير نؤمل فيه إذا تولانا سبحانه، وهذا المقصود الأسمى من ذكر مثل هذه الأخبار في القرآن بصورة أولية، وهي بيان عظمة الجبار جل جلاله، ولذلك استفتح الله الآيات بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:1].
قال تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ} [الإسراء:2] أي: التوراة، {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2] وسيأتي معنا في درس قادم -إن شاء الله- التفريق ما بين قول الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وبين قوله: {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:2 - 3] يقول أكثر المفسرين هنا: إن معنى الآية: يا ذرية من حملنا مع نوح! يقولون في نصبها: إنها منادى لحرف نداء محذوف، والمعنى: يا ذرية من حملنا مع نوح! والحق: أن هذا عندي غير مقنع، لكنني لا أملك بديلاً عنه، لكن قولهم: إنها منادى لحرف نداء محذوف أراه منسجماً مع بلاغة القرآن، فنقول: ذرية من حملنا مع نوح، ونوح عليه الصلاة والسلام أول الرسل إلى الأرض، وهو الذي حمله الله جل وعلا في السفينة ونجاه كما قال: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، فكل من جاء بعدهم -أي: بعد من نجوا- هو من ذرية من حمل الله جل وعلا مع نوح، لكن هذا تعميم، وتشكل علينا هنا آية الصافات، وهي قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فهنا حصر للخليقة بعد نوح في أبنائه الثلاثة؛ لأن أبناء نوح أربعة: يافث، وكنعان، وسام، وحام، فكنعان على المشهور هلك في الطوفان، فبقي الثلاثة: سام، وحام، ويافث، فعلى آية الصافات: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فالناس ينسبون إلى هؤلاء الثلاثة، لكن آية الإسراء لا تساعد على هذا؛ لأن الله قال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3]، وممن حمل مع نوح أبناؤه وغيرهم، وليس مقصوراً على أبنائه فقط: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، وهذا من نعت الله جل وعلا لهذا النبي الكريم عليه السلام؛ لأنه كان شاكراً، وقد مر معنا أن قواعد الشكر عديدة، لكن من أهمها: أن تعلم أن النعمة من الله، هذه أول قاعدة في الشكر.
القاعدة الثانية: أن تثني على الله بها.
والثالثة: أن تستعملها فيما يحب الله.
والرابعة: أن تحدث بها غيرك.
قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، هذا ما يتعلق بالتفسير.