تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً)

قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] أول ما يشكل على طالب العلم هنا عندما يريد أن يتأمل هذه الآية هو أن الهبوط تكرر مرتين: تكرر قبل قليل: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وتكرر بعد آية: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37] أي: أن آية: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) جاءت فاصلاً بين ذكر الهبوط الأول والهبوط الثاني، وقد اختلف العلماء: هل الهبوط الأول هو عين الهبوط الثاني، وإنما اللفظ تكرر، أو أن الهبوط الأول غير الهبوط الثاني؟ من العلماء من يقول: إن الهبوط الأول هو هبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، ثم جاءت آية: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ثم جاء قول الله جل وعلا: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] فقالوا: هذا الهبوط غير الهبوط الأول، فهو هبوط من السماء الدنيا إلى الأرض.

لكنني أقول: إن هذا بعيد؛ لأن اللفظ جاء على هيئة جمع (اهْبِطُوا) أمر واحد، والأمر الثاني: ذكرت الأرض في الأول ولم تذكر في الثاني، ولو ذكرت في الثاني لكان هذا مسوغاً لقولهم، لكن القول الأول بعيد؛ لأن الأرض ذكرت في الهبوط الأول ولم تذكر في الهبوط الثاني، فحسن حمل الثاني على الأول، وصعب حمل الأول على الثاني.

فنقول: الذي يظهر -والعلم عند الله- أن المسألة بيان لفظي وبلاغي، والمعنى: لما ذكر الله الهبوط فصل عن ذكر ما حصل لآدم بعد ذلك وكلف الله جل وعلا به نبيه بذكر التوبة على آدم؛ فلما ذكر ربنا التوبة على آدم عاد وكرر الهبوط حتى يبدأ السياق من جديد، ويؤخذ بخطام اللفظ بعد أن ترك، قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة:38] فهنا لم يذكر العداوة وذكرها في الأول {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36].

وقد قلت فيما سلف: إننا نذكر أحياناً شيئاً من متين العلم يتعلق به جنة ونار، ويتعلق به حكم شرعي، ونذكر أحياناً نتفاً من مليح القول يغلب على الظن أنها مقبولة لكن لا يبنى عليها أمر عملي، لكنها تفتق الذهن وتوسع المدارك وتجعل مجالات المعرفة واسعة بين يديك، فتقيس أنت بعد ذلك الأشباه والنظائر، وسيتكرر هذا كثيراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015