ونلحظ في الآيات أن الله ذكرهم على ثلاث مراتب، والآيات لم تقصد الترتيب الزمني قطعاً، فقد قال الله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} [الأنعام:86]، وقبله قال: {وَعِيسَى} [الأنعام:85]، ومعلوم أن عيسى بعد لوط.
إذاً: لم تعن الآيات بالترتيب التاريخي، ولم تعن الآيات بترتيب الفضل ومنازلهم؛ لأن الله جل وعلا ذكر داود وسليمان ثم ذكر عيسى، وعيسى أفضل من داود وسليمان؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، فإما أن يقال: إن الآية لم يكن يقصد منها التصنيف، وإما أن يقال: يقصد منها تصنيف تاريخي، وقد نفيناه، أو تصنيف حسب الفضل، وقد نفيناه.
فإن قال قائل: يقصد منها التصنيف فلابد من أن يقول لنا: على أي شيء صنفت.
والأظهر -والعلم عند الله- أنها صنفت على القياس التالي: فالله يقول عن المجموعة الأولى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام:84]، فهؤلاء الخمسة يجمعهم شيء واحد، وهو أن الله أعطاهم سيادة في الدنيا، فداود وسليمان كانا حاكمين، وموسى وهارون كانا حاكمين لبني إسرائيل، وأيوب كان مريضاً مبتلى ثم أصبح غنياً مطاعاً، قال الله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:84]، انتهى به الأمر إلى الثراء، وجاء في الحديث: أن الله أنزل عليه رجل جراد من ذهب، فهؤلاء أعطوا حظاً كبيراً من الدنيا.
ثم قال الله بعدها: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام:85]، وهؤلاء يجمعهم الزهد وترك الدنيا، والانقطاع التام إلى الله، والانقطاع التام إلى الله حاصل في كل الأنبياء، ولكن هؤلاء لا يعرف عنهم ثراء، ولا يعرف عنهم جاه باعتبار الأمر والنهي والقضاء بين الناس.
ثم قال الله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86]، فهؤلاء ليسو معدودين فيمن أوتي حكماً وسلطاناً وليسو معدودين في الزهاد من الأنبياء الذين انقطعوا، فجاءوا في المرحلة الوسطى، ولهذا أفرد الله ذكرهم فقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86].
إذاً: أصبح التقسيم بحسب ما أفاء الله جل وعلا به عليهم وما خصهم به، وليس بقضية الفضل ولا بقضية التأريخ، وهذا التقسيم ارتضاه المراغي في تفسيره، وهو تقسيم جيد، والعلم عند الله.