وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح وغيره- أنه قدم من عالية المدينة حتى أتى مسجد بني معاوية، ومسجد بني معاوية هو المعروف اليوم بمسجد الإجابة في جهة شمال غرب الحرم تقريباً، وهو إلى الشمال أقرب منه إلى الغرب، بجوار مستشفى يسمى مستشفى الأنصار، وهو مبني على طراز حديث، ويعرف عند الناس بمسجد الإجابة.
وبنو معاوية بطن من الأوس، وكان أكثر البطون من الأوس والخزرج لهم مساجد، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل هذا المسجد ودخل معه أصحابه، فصلى صلاة طويلة، ثم دعا دعاء طويلاً ثم انصرف إلى الناس بوجهه وقال: (إني سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله ألا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألت الله ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألت الله ألا يذيق بعضها بأس بعض فمنعنيها)، فانظر كيف أن الله جل وعلا منع نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة ليجري قدره، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد الحدب والشفقة على الأمة، والله جل وعلا أجرى هذا الأمر لحكمة، فالله جل وعلا حكيم عليم، وهو أرحم بنا من نبينا صلى الله عليه وسلم، ونبينا رحمته من رحمة الله بنا، ولكن علم الله أعظم وأجل من علم نبيه صلى الله عليه وسلم، بل لا علم له صلى الله عليه وسلم إلا ما علمه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام في تربيته لأمته يتوخى أسلوب الوضوح، ولهذا قال: (فمنعنيها)، ولم يدر بخلده عليه الصلاة والسلام أن الناس سيتكلمون في منع الله جل وعلا نبيه دعوةً؛ لأنه عليه الصلاة والسلام عبد لربه جل وعلا، فهو عبد الله ورسوله، يبلغ دعوة ربه كما أتته، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخفياً شيئاً من القرآن لأخفى قول الله جل وعلا: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، وهذا عتاب من الله لنبيه لاتباعه خلاف الأولى، ومع ذلك تلاه صلى الله عليه وسلم على الناس، ومكث شهراً لا ينزل عليه الوحي في أمر عائشة، فلم يستطع أن يدلي بدلوه في إثبات براءتها أو تهمتها حتى نزل الوحي من السماء: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة على الوجه الأتم والنحو الأكمل.