والإنسان يكون قريباً من الناس إذا شعر الناس بأنه موئل رحمة، فإذا شعر الناس بأنه موئل رحمة تعلقت قلوبهم به، وإذا شعر الناس بأن زيداً أو عمراً من الناس ليس فيه رحمة تمنوا خلاصه والانفكاك منه، ومما يستظرف في هذا أن الإنسان أحياناً من جهله قد لا يرحم نفسه، فقد ذكر الجاحظ الأديب المعتزلي المعروف في كتاب البخلاء عن رجل اسمه: الثوري -وهو غير سفيان الثوري المعروف- أنه كان فيه بخل شديد، فأصابته حمى هو وأهل بيته وغلمانه، فنجم عن هذه الحمى أن أهل بيته أصبحوا لا يستطيعون الأكل، فما كان مهيئاً مقدراً لأن يأكلوه في أيام لم يأكلوه، فزاد عنده شيء من الدقيق، فوجد أن الحمى قد نجم عنها غنيمة؛ لأن الدقيق قد زاد، فمن عدم رحمته بنفسه أصبح يقول: يا ليت منزلي بسوق الأهواز أو بنطاة خيبر أو في ديار الجحفة! والأهواز: منطقة في إيران حالياً مشهورة بأنها موبوءة كثيرة الحمى، وخيبر بلد حمى، ونطاة خيبر موضع في خيبر أشد خيبر حمى ووباء، والجحفة قد ثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن تنتقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فهي أرض موبوءة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خربة موجودة إلى اليوم، وهي ميقات، ولهذا يحرم الناس من رابغ؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يبقى في الجحفة، وإن كان فيها سكان قليلون.
فالمقصود أن هذا الرجل لما وجد النفع من الدقيق الذي زاد تمنى أن يكون مسكنه في إحدى هذه الديار الثلاث؛ لأنها ديار حمى، لتكون الحمى فيه وفي أهله طيلة، لينجم عن ذلك زيادة في الطعام.
وهذه القصة ذكرها الجاحظ في باب في كتاب دونه أسماه: (البخلاء) دون فيه أحوال أهل عصره، وقد كان من سير الأدباء آن ذاك أنهم يدونون أحوال عصرهم، فدون الجاحظ حال البخلاء ودون حال المعلمين ولكل طريقته في الأدب، وكان الأدب يوم ذاك في حالة تأسيس، وحين يكون الأدب في حالة تأسيس فإنك لا تستطيع أن تضبطه؛ لأنه بعد ذلك يأخذ طرائق ومناهج قددا.
والذي يعنينا هنا أن هذا الرجل أتي من أجل رحمته بنفسه، ولكن الإنسان إذا رحم نفسه فأول ما يخط لها توحيد الله؛ لأن توحيد الله جل وعلا أعظم المنجيات، بل لا منجي غيره، فيكون من رحمة الإنسان بنفسه توحيد الله، ثم بعد ذلك ينتقل الإنسان إلى نفع الغير فيكون رحمة، ولهذا لما أراد الله أن ينعت نبيه قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فمن كان ولياً في بيته -رجلاً كان أو امرأة- أو كان معلماً، أو مسئولاً في إدارة، أو أميراً في مدينته، إن لم ير الناس منه جانب الرحمة تمنوا زواله، ومن كان رحيماً فنه سيموت قطعاً، ولكن الرحيم في الناس إذا مات بكى الناس عليه دماً قبل أن يبكوا عليه دمعاً وذكر بخير.