ثم قال الله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام:6].
الهمزة هنا للاستفهام اتفاقاً، ولكن اختلفوا في الغرض من الاستفهام هنا.
فقال بعضهم: إن الاستفهام هنا إنكاري، وهذا القول ذهب إليه الشوكاني رحمه الله تعالى في فتح القدير، وهو خلاف الصواب.
والصواب أن الاستفهام هنا استفهام تقريري من جنس قول الله جل وعلا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]؛ لأن الاستفهام إذا دخل على نفي يفيد التقرير، و (لم) نافية بالاتفاق.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:6] معناه: ألم يعلموا، وليست رأى هنا هي البصرية، ومعلوم أن (رأى) إذا جاءت بمعنى (علم)، فهي من أخوات ظن.
وأما إذا جاءت (رأى) بمعنى (أبصر بعيني رأسه) فإنها تتعدى إلى مفعول واحد، وأما الأولى فهي بمعنى (علم)، من أخوات ظن، تدخل على الجملة الاسمية فتنصب المبتدأ والخبر، وكلاهما يسمى مفعولا لها.
ولقرينة على أنها علمية وليست بصرية أننا نعلم جميعاً أن الله جل وعلا قال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:6]، وأن القرشيين لم يروا بأم أعينهم هلاك الأمم قبلهم، فلما انتفى الثاني وجب صرفها إلى الأول.
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} [الأنعام:6] (كم) هنا خبرية، وليست استفهامية.
و (كم) الاستفهامية تحتاج إلى جواب، وأما (كم) الخبرية فلا تحتاج إلى جواب، وإنما يراد بها الكثرة، قال الفرزدق يهجوا جريراً: كم خالة لك يا جرير وعمة فدعاء قد حلبت علي عشاري قصد بها الكثرة ولم يقصد جواباً من جرير على سؤاله.