وأنت تعلم -أيها المبارك- أن الترجمة جاء ذكرها في أيام العباسيين لكن العرب عندما ترجموا عن الكتب اليونانية أكثر ما عنوا به: علم المنطق، وما يعنى بالأدب، فلهذا استفاد الأدباء من تجارب اليونان فظهر في شعرهم ذلك وهو في شعر المتنبي أظهر، واستفاد النحاة في تحرير النحو وتقسيمه ونشوئه من علم المنطق الذي أخذوه عن اليونانيين، فارتقى علم النحو وساد وتفرعت مدارسه، وأغفل العرب آنذاك عمداً أو جهلاً علمين في النقل عن اليونانيين كانا شائعين في الحضارة اليونانية: وهما الفن والسياسة، فلم يترجموا شيئاً في السياسة، ولم يترجموا شيئاً في الفن، ولهذا فالحضارة العباسية بقيت ضعيفة في قضية السياسة؛ لأن علم السياسة لم يؤخذ من اليونانيين، ولم يترجم، فما ارتفعت حياة العرب السياسية في عهد العباسيين، ولهذا لما جاء هولاكو لم يجد دولة قائمة على سوقها لا خليفة يأمر وينهى، ولا جيش منظم يدافع، وإنما هي الخيانة؛ وزير ينتمي إلى مذهب الرافضة تضيع دولة بأكملها بسببه، ولو كانت هناك قوة سياسية منظمة لما أمكن لهم ذلك، ومن أسباب عدم الارتقاء السياسي أمران: أولاً: عدم اللجوء إلى الاستفادة من أحداث الصدر الأول وهذا السواد الأعظم.
والأمر الثاني: عدم الاستفادة من الحضارة اليونانية في علم السياسة، أما الفن فخيراً فعلوا في أنهم لم ينقلوا ولم يترجموا تقدم اليونانيين فنياً.
هذا استطراد دخلنا فيه من باب قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، وذكرنا أن المانوية فرقة تؤمن بأن الظلمة أصل كل شر، وأن النور أصل كل خير.
على التعريج بالظلمة والنور أهل الشرع الباحثون في كلام الله -جعلنا الله وإياكم منهم- يقولون: إن الله جل وعلا خلق الليل قبل النهار، واستدلوا بآية يس، قال الله تبارك وتعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، فأخبر الله جل وعلا أن الليل هو الأصل في النهار، وأن النهار مأخوذ منه، لكن الآية التي بين أيدينا الآن في سورة الأنعام لا تدل على هذا، بل تدل على الاقتران، قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، (ثم) المستقر ذهنياً وفق صناعة النحو أنها: للتراخي، تقول: حضر عبد الرحمن ثم طارق فهذا تراخ زمني، لكن العلماء يقولون هنا: ليس المقصود منه التراخي الزمني؛ لأن هناك بوناً شاسعاً بين خلق السموات والأرض وبين كفر كفار قريش؛ لأن كفار قريش آخر الأمم، والله جل وعلا خلق السموات والأرض قبل أن يخلق أبانا آدم، فجاء على هذا: أن التراخي هنا المقصود به التراخي بين الرتبتين، أي: على طريق الاستبعاد، بمعنى: أن الآيات ظاهرة، والدلائل قائمة، والشواهد واضحة، في أن الله لا ينبغي أن يعبد معه غيره، ثم مع هذا الظهور الجلي الواضح يأتي أهل الإشراك فيعدلون مع الله غيره أو يعدلون عن عبادة ربهم، فالتراخي هنا للتراخي بين رتبتين، وليس للتراخي الزمني، وإن كانت تتضمن التراخي الزمني لزاماً؛ لأن هناك تراخ زمني كبير ما بين خلق السموات والأرض وكفر كفار قريش.