قال أهل العلم: والسورة هذه أصل في الاحتجاج على المشركين، وقد تضمنت أسلوبين: أسلوب التقرير، وأسلوب التلقين، وسيأتي تفاصيل ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه، استفتحها ربنا جل وعلا بحمده والثناء على ذاته العلية فقال جل جلاله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، وهنا نقول: إنه من باب الاتفاق لا من باب الإلزام جاءت في القرآن خمس سور استفتحهن الله بحمده، وخمس سور ختمهن الله بحمده، فأما الخمس سور التي استفتحهن الله جل وعلا بحمده فهي: سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، فهذه السور الخمس افتتحهن جل وعلا بحمده، قال ربنا في الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وقال تباركت أسماؤه في الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، وقال جل وعلا في الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، وقال تبارك اسمه في سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:1]، وقال جل وعلا في فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1].
وختم خمس سور بحمده: قال جل وعلا في الإسراء: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:111]، وقال جل وعلا في النمل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [النمل:93]، وقال جل وعلا في الصافات: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181 - 182]، وقال جل وعلا في الزمر: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، وقال جل وعلا في الجاثية: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ} [الجاثية:36].
فهذه خمس سور: الإسراء والنمل والصافات والزمر والجاثية ختمهن الله جل وعلا بحمده تبارك وتعالى.
نعود للسورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، أهل الصناعة النحوية يقولون: إن الألف واللام هنا للجنس، فإذا ابتدئ بها تضمنت معنى الحصر، فتصبح الألف واللام في الحمد هنا على سبيل الحصر أي: لا يستحق الحمد أحد غير الله، فإذا قلنا: معنى الحصر أي: لا يستحق الحمد أحد غير الله تبارك وتعالى، والحمد يمكن تحرير معناه بالقول: أنه ما يصدر من فعل على وجه التعظيم للمنعم، وقولهم: للتعظيم احترازاً من الإهانة؛ لأن الله جل وعلا قال في باب التهكم بمن عصاه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فهذا ليس فيه حمد ولا إجلال وإنما جرى مجرى التهكم ولهذا قالوا: هو فعل أو قول يصدر على وجه التعظيم للمنعم، ولا يستحق الحمد أحد غير الله، ويمكن صرف الشكر إلى غير الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله).
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، المعنى العام للآية: أن الله تبارك وتعالى يثني على ذاته العلية، ويبين أن من عظيم قدرته وجليل حكمته وسعة رحمته خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ومع هذه القرائن الظاهرة والأدلة الباهرة هناك من يجعل معه غيره، أي: يجعل له نظيراً ومثيلاً ونداً وهو صنيع أهل الإشراك، هذا المعنى العام للآية، لكن جرت العادة أننا لا نتوقف عند هذا، بل نبحر في الآية ونستنبط ما فيها، ونحرر المعنى على الوجه التالي: فهم العلماء من الآية: أن الجمع مقابل الإفراد يدل على فضيلة الفرد، ودليلهم: أن الله جمع الظلمات وأفرد النور، ومما يؤيده في أسلوب القرآن: قول الله جل وعلا في سورة النحل: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ} [النحل:48]، أفردها، {وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48]، فجمع الشمائل مع الاتفاق على فضل اليمين على الشمال.
هذه واحدة.
ثم اختلف العلماء هنا في معنى كلمة: يعدل، وهو فعلها الأصلي، عدل -أيها المبارك- تأتي على معنيين إذا قلنا عدل عن الشيء أي: مال عنه وانحرف، وإذا قلنا: عدل به أي: ساواه بغيره، فأي المعنيين أراده الله مبدئياً حتى لا تتحمل ثقلاً على ظهرك وتخشى أن تقع في محظور؟ أي المعنيين اخترت فهو صحيح؛ لأن أهل الإشراك عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وهذا هو المعنى الأول.
وعدلوا مع الله غيره بأن جعلوا له شركاء وأنداداً فكلا الأمرين وقعا من أهل الإشراك، ولا ريب أن الإنسان إذا خشي أن يقع في محظور دفعه هذا إلى التقدم والمجازفة في الكلام؛ لأنه أمن الوقوع في المحظور، لكن تحرير الكلام علمياً يأتي على كلمة {بِرَبِّهِمْ} [الأنعام:1] فالباء هنا: هل هي للإلصاق أو بمعنى عن؟ فإذا أخذنا أن عدل بمعنى: انحرف ومال، فستصبح بمعنى: ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون.
وقد جاء في القرآن وفي كلام العرب: أن الباء تأتي بمعنى عن، قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1]، والمعنى: سأل سائل عن عذاب واقع، فالباء هنا بمعنى عن، وجاء في لغة العرب قول عنترة الشاعر الجاهلي المعروف: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك وهي عبلة محبوبته وابنة عمه.
إن كنت جاهلة بما لم تعلم وجاهلة خبر لكان، بما لم تعلم أي: عما لم تعلم، أي بمعنى: عن، وهو الذي نبحث عنه الآن.