هذا ولا أريد أن أخرج عن عظمة كلام الله لكنني أزدلف تربوياً، حتى وأنت تربي لا تُعلِّق من تربيه بك، فإن الإنسان لا يتعلم من شيء أكثر من شيء يكتشفه بنفسه، وإنما الصواب عندنا في التربية أن يكون المربي والراعي والقائم على الأمر موجه من علو ومن بعد، ولا يحاول أن يجعل ممن يربيه صورة منه، ثم إن العاقل في تربيته يتغافل عن أمور، ولا يحسن التنقيب عن كل شيء، فدع من دونك أو من تحت يدك، بل دع صديقك، بل دع زوجتك يُخطئ أو تُخطئ وتعود لوحدها أو يعود لوحده إلى صوابه، فذلك أبقى لماء وجهه عندك، أما إن اكتشفت أنت خطأه وثرَّبت عليه ولمته فلو عاد فإن ماء وجهه قد أُريق من قبل يوم أن أخطأ، وعلم أنك اطلعت على خطأه، فإنه يخشى أن تُعيره يوماً به، فإذا أذن لي من يراني من الآباء والأمهات فليس من الصواب في ظني -وهذا مسألة من باب الاجتهاد- أن يتفقد الإنسان أو الوالد أو الوالدة في كل آن وحين جوال ابنه، بحجة أن يخشى عليه من المهالك؛ فإنه لا بد أن نُبقي من دوننا أو من تحتنا في عالم خصوصية لهم، وأما كون المرء يطّلع على خصوصية كل أحد فهذا يتنافى مع ما دل الشرع عليه.
ولقد شُرع الاستئذان في الدخول على أطهر بيت وهو بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في بيت النبوة ما يُخفى ولا يُستحيى منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة في كل أمره، لكن من باب أن الإنسان أحياناً لا يُحب أن يطّلع أحد على بعض شأنه، وحتى أنت أيها المبارك! في إقامة العلاقات مع غيرك فثمة أمور لا تحاول أن تصل إليها بالسؤال! فإن من معك: أستاذك أو شيخك أو قرينك أو من دونك إذا كان ذا عقل فإنه إذا أراد أن يُطلعك فسيُطلعك من غير أن تسأله، وما كتم الأمر عنك إلا لأنه يرغب ألا تطّلع أنت عليه، فلو قدِّر أنك اطّلعت عليه فلا تُظهر له أنك قد اطّلعت عليه.
وقد ذكروا أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بعث أحد رسله -يعني: أحد حشمه وخدمه- إلى ابنه عبد الملك، وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز شامة في جبين الدهر، وقد مات قبل أبيه، ولهذا قال عمر لما مات ابنه عبد الملك قال: الحمد لله الذي جعلك في ميزاني ولم يجعلني في ميزانك.
وموضع الشاهد أنه حصل بينه وبين من بعثه أبوه نوع من الكلام، وأراد الرجل أن يُخفي هذا عن عمر، فقال له عبد الملك: لا تُخبر أمير المؤمنين بهذا، فقال الرسول المبعوث: وإن سألني أمير المؤمنين؟ فقال عبد الملك: لا تخبره فإن أبي لن يسألك عن شيء لم تخبره به، أي: أنه أعرف الناس بأبيه، فإذا علم أبي يعلم مني أنني إذا أريد أن أُطلعه أطلعه، وهو لن يتفقد بالطريقة التي يصل بها إلى الحد الذي يخرجه عن مكنون التربية الحقة، واعتماده على نفسه.
ونحن نلحظ من بعض الفضلاء الذين حولنا -وهم كثر- أنه من حرصه أجزل الله مثوبته على تربية ابنه أنه إذا سافر يتصل بأولاده؛ ليطمئن أنهم أقاموا صلاة عظيمة كشعيرة الجمعة، وهذا حق ومسئولية لكن يمكن أن تتأكد من أنهم صلوا الجمعة من غير أن تجرحهم، وذلك إما بعض الفضلاء يسأل ابنه ليتأكد، فيقول له: ماذا قال الخطيب؟ وأما أنت فقد جعلت ابنك أمام خيارين: إما أن يتجرأ ويقول: لم أذهب، وإما أن يكذب، وفي كلا الحالتين أقررته على خطأ، لكن مثل هذه الأمور تغفل عنها، ولا يعني ذلك أبداً ولا يقول بهذا عاقل أن تترك تربيته، لكن بطريقة أخرى تُقنعه وتبين له أهمية صلاة الجمعة من غير أن تجعل المسألة بينك وبينه بهذه الطريقة؛ لأن السؤال على قسمين: سؤال اتهام لا يقبله حر، وسؤال استفهام وهذا أمر مفتوح، فقد تقابلني ولا أعرفك فتسألين: أين الطريق إلى المكان الفلاني، فأخبرك، فهذا سؤال استفهام، أما أن يتأتي أحد إلى شخص أكبر منه أو دونه ويسأله سؤال اتهام ويريد إجابة؛ فالحر الأبي هنا لا يجيب؛ لأنه لا يقبل أن يسأل أسئلة اتهام، وليس من التربية في شيء أن تسأله أسئلة اتهام، فمن تحبه علّقه بالله، وأول طرائق أن تُعلّقه بالله أن تقطع علائق تعلقه بك؛ لأنه ما دام أنه متعلقاً بك فلن يكمل تعلقه بالله، لكن ابدأ بأن تعلقه بالله.
وقد يقول قائل: وكيف أطمئن عليهم؟ فمن الممكن أن تقول حتى تبين له فضل صلاة الجمعة وعظيمها: أنا يا بني الآن في سفر، ووالله إني متعب لكن تعرف يا بني أن صلاة جمعة ليس هناك عاقل يتركها، فقد ذهبت إليها وحضرتها وأنا في سفر متعب جداً؛ لأنه ليس هناك مسلم يترك صلاة الجمعة فصليت ثم جئت، ثم وأنتم كيف أنتم؟ وكيف أموركم؟ فثق تماماً أن الرسالة قد وصلت، وسيجلّك لأدبك، وسيأتي في أيامه القادمة يخشى أن تطّلع عليه على عورة أو مثلبة، فيقول في نفسه إن لم يكن صلى: الحمد لله الذي ستر عليّ ولم يسألني أبي أصليت أم لم أصلي، ويتداركها فيما سيأتي، وأما إن تجرأ اليوم وكذب فإن السيئة تقول: أختي أختي، وسيأتي بكذبات بعد، وإن تجرأ اليوم وقال: لن أصلي، فإذا انتصر عليك وبينك وبينه مفازات، فماذا ستفعل به أكثر من أن توبخه وتعنِّفه في الهاتف؟ فهي دقائق! ساعات! ثم لا يلبث أن تضع سماعتك، فيصبح الشيء الذي يخشاه قد وقع، وإذا وقع على المرء الشيء الذي يخشاه فلا يضره بعد ذلك أي شيء، فإن من يخشى منك أن تصفعه لا يزال منحياً، فإذا صفعته رفع رأسه.
أيتها النفس أجملي الجزع إن الذي تخشين قد وقع هذا استطراد في قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220]، والكلام عن اليتامى وتربيتهم، وقد تكلمنا فيه كثيراً، وهذا منهج قرآني ندين الله جل وعلا به.