تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة)

قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] وجاء الجواب القرآني: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].

ثمة في أسلوب العرب في كلامها أسلوب يسمى أسلوب الحكيم, وأسلوب الحكيم يمكن إجماله في جملة واحدة وهي: تلقي السائل بخلاف الذي يطلبه, فأنت تجيبه جواباً غير متوقع من لدنه, لكن هذا الجواب أشد فائدة له.

ومنه أن جماعة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -قيل: إنهم بعض الصحابة, وقيل: إنهم بعض اليهود, ولا يتعلق بمعرفة القوم كبير علم أو خلاف- فسألوه عن الهلال: لماذا يبدو دقيقاً ثم يكتمل ثم يعود كما كان؟ فالله يجيبهم على ما ينبغي أن يكون عليه السؤال، فليس السؤال عن علة كونه يبدو هكذا بأحق من السؤال عن الغاية من كونه على هذه الحالة، فنقلهم الله من السببية إلى الغائية أو الغاية, فبين الله جواب ذلك بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وذكر الحج بعد قوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] وهو ذكر خاص بعد عام, فالحج يدخل في قول الله جل وعلا: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] ومواقيت: جمع ميقات, كما أن مواعيد جمع ميعاد، والميعاد بمعنى الوعد, والمواقيت بمعنى: الوقت, فهي {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189]، فالزكاة تعرف بالأهلة إذا حال الحول, والعدد للنساء تعرف بالأهلة, وما يكون بين الناس من مواعيد تضبط عن طريق الأهلة, وجميع مصالح الشرع معلقة بالأهلة.

وقد مر معنا أن المصالح الدنيوية المحضة معلقة بالشمس, وأما المصالح الشرعية فهي معلقة بالهلال, والشمس والقمر كلاهما آيتان من آيات الله، ويسميان: القمران.

ولماذا أفرد الله الحج؟ جرت عادة العرب في الشيء الذي تملكه وتعرفه من قبل أن تقدم وتؤخر فيه, فالزكاة والصلاة لم يكن للعرب عهد بها, فلهذا لا تملك تغييرهما, وأما الحج فكانت العرب تعرفه قبل الإسلام، كما كانت تعرف الأشهر الحرم كذلك قبل الإسلام, وقد أدخلوا التقديم والتأخير والزيادة والنقصان في الأشهر الحرم, ولهذا قال الله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فحتى لا يحصل لأشهر الحج ما حصل للأشهر الحرم قال الله جل وعلا -مفرداً للحج وحده-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وهذا نوع من التوطئة والتمهيد لما يأتي بعدها.

ثم قال ربنا: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].

فأي شيء تطلبه على غير وجهه فهو من إتيان البيوت من ظهورها, فإذا طلبته من وجهه كان من إتيان البيوت من أبوابها, فيقول ربنا: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189] والنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم يسأل عما يتعلق بمصالح الدين والآخرة، وأما ما لا يتعلق بمصالح الدين والآخرة أصلاً فلم يبعث من أجله, فالمسألة إما بر أو شأن دنيوي محض.

فكأن الله يقول: الشأن الدنيوي المحض ليس لكم أن تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه لم يبعث لهذا, فكون الهلال يبدأ صغيراً ثم يكبر ثم يعود كما كان وهذا شأن دنيوي محض أنتم -أيها الأخيار من أصحاب محمد- منزهون أن تسألوا نبيكم عن مثل هذا, فلم يبق إلا الشأن الديني الذي تجمعه كلمة بر.

والبر: اسم جامع لجميع صفات الخير، وهناك طرائق للبر ينبغي أن يسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا نهاهم أن يأتوا البيوت من ظهورها، أي: أن يسألوه من غير الوجه اللائق، وإنما إدراك الأشياء يكون باتخاذ الأسباب الموصلة إليها, فلذا قال الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].

لكن القرآن دائماً يجعل التقوى في طيات الأوامر الشرعية كلها؛ لأنها هي المقصود الأسمى من العباد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015