أما قول الله جل وعلا: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182].
الجنف: هو الميل والعدول عن الاستواء، والفرق بين الجنف والإثم: أن الجنف هو الخطأ من غير عمد، وأما الإثم: فهو الجور بعمد.
ومعنى: (خاف) في قوله جل وعلا: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة:182] أي: توقع وغلب على ظنه وعلمه، فمثلاً: تريد أن تخرج الساعة الثانية ظهراً والسماء ملبدة بالغيوم، فقررت أن تخرج الساعة الواحدة والنصف، فسألك بعض من يعرف موعدك: لم بكرت؟ فتقول: أخاف أن تمطر السماء، والمعنى: أتوقع أن تمطر السماء، أو يغلب على ظني أن تمطر السماء فتعيقني، فهذا معنى قول الله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة:182] ويصبح المعنى هنا: أن الوصي أو من كان حاضراً إذا غلب على ظنه أو توقع أن الميت -ونسميه ميتاً باعتبار ما سيكون، وإلا فعند ما يوصي الإنسان فإنه يكون في حالة رشد وقدرة- يريد أن يضر بالورثة، فيوصي بأكثر مما ينبغي، أو أن يكون المال قليلاً لا يحتمل أن يوصي منه، فتدخلت بكلام طيب هين لين تخشى فيه من وقوع هذا الميت في الخطأ إما بعمد أو بغير عمد، فهذا ليس كالأولين الذين خوطبوا بقول الله جل وعلا: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة:181]، فقد اختلف الوضع، فالأولون يريدون الإفساد؛ فلذلك حذرهم الله وقال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:181]، وأما الآخر في الآية الأخرى فقد أراد الإصلاح والذي أشكل على أهل العلم هو أن المصلح يأتي التذييل على أنه يثاب، فلِمَ قال الرب جل وعلا: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182]؟ ويمكن توجيه الاسمين الكريمين من أسماء الله الحسنى هنا على الأمرين، فيصبح: أن الموصي -وهو الميت- لو أخطأ أو تعمد الخطأ فحذره أو نبهه من هو عنده فرجع عن خطئه، فكأن الله يقول: فإن الله غفور له ما كان منه في الأول؛ لعودته إلى الحق، ورحيم بمن أرشده ودله على أن يعدل عن الخطأ والإثم، فينصرف (غفور) إلى الذي أخطأ ثم آب، و (رحيم) إلى من أرشده ودله على الخير، وبهذا فيما يبدو لنا يستقيم المعنى.