قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174]، هذه عودة لذم أهل الكتاب.
{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174]، وهذا زيادة على العذاب السابق وهو اللعنة المذكورة في الآيات السالفة، مما يدل على أن كتمان العلم شيء عظيم ومنكر فضيع.
قال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175]، ثمت شيء في المنازع البلاغية يسمى: تنزيل المحصول المتحقق منزلة الحاصل، فالله جل وعلا -وهو أصدق القائلين- قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174]، والمؤمن إذا سمع هذا يعلم يقيناً أن هذا سيقع لا محالة؛ لأن المخبر به هو رب العالمين، فنزل هذا منزلة ما وقع فيقول لهؤلاء الكفرة ما أصبركم على النار أي: ما أشد صبركم على النار، وسياقكم إليها رغم علمكم بحرها! هذا لسان المخاطب بالقول، والقائلون هم الناس، وهذا الأمر لم يقع لكن هذا منزع بلاغي، وهو تنزيل المحصول المتحقق منزلة الشيء الحاصل.
قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175] هذا قول في تخريج التعجب في ما، {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175].
ويوجد تخريج آخر وهو أن ما هنا ليست تعجبية وإنما استفهامية، ويصبح المعنى: أي شيء أصبرهم على النار؟ أي: ما الذي دفعهم إلى هذا حتى يصار بهم إلى النار؟ ثم قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:176]، هذا جواب لهذا كله والمعنى: أن الله جل وعلا أنزل الكتاب بالحق لينفع به العباد.
فلما جاء هؤلاء العلماء وكتموه كان حقاً عليهم أن ينالوا ما أخبر الله جل وعلا عنه قال الله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176].