ثم ذكر الله آية النسخ: {قَدْ نَرَى} [البقرة:144] أي: ربما، وهي هنا للتكثير، كذا قال الزمخشري وهذا صحيح.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] وهذا من أدب نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة:144] أي: فلنيسرن لك ونشرع لك {قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فانتقلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] أي: الكعبة، قال بعض العلماء: المسجد الحرام أطلق في القرآن وفي السنة ويراد به أربعة أشياء: يراد به الكعبة، يراد به عين الكعبة، ويراد به المسجد المحيط بالكعبة، ويراد به مكة، ويراد به الحرم مما يشمله حدود الحرم.
الله يقول: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] أي: من أهل مكة، لكن {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] يطلق على حدود الحرم.
قال الله تبارك وتعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] الخطاب في قوله: (فولوا) للأمة، وفي قوله: (فول) للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه على غير عادة القرآن؛ لأن عادة القرآن إما أن يخاطب النبي وتكون الأمة تبعاً له، وإما أن يخاطب الأمة ويكون النبي رأساً، لكن لا يأتي خبر في الغالب يذكر مرة لأمته، والجواب أن الله قال قبلها تمهيداً: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة:143]، فلما كان أمراً ذا مشقة أكده الله جل وعلا بهذه الطريقة، وساقه بهذا الأسلوب، فخوطب به النبي وخوطبت به الأمة؛ لأنهم واجهوا عنتاً شديداً في قضية قبوله، فالمشركون يقولون: حن محمد إلى مولده، والمنافقون يقولون: حن محمد إلى مولده، ولما أنزل الله جل وعلا الثناء على البيت وتمجيده وتعظيمه قالوا: إذا كان محمد يمجد هذا البيت كل التمجيد فلم يتوجه إلى بيت المقدس؟ ولهذا قال الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142]، فهنا خاطب الله نبيه، وخاطب أمته صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144] والمعنى: أن أهل الكتاب يعلمون فيما أنزل عليهم أن الله جل وعلا سيطلب من نبيه أن يتحول إلى الكعبة، اليهود والنصارى أهل الكتاب يعلمون أن الله جل وعلا سيأمر نبيه بالتحول إلى الكعبة، وأن آخر الأمر سيكون التوجه لكل من آمن بالله إلى الكعبة.
روى البغوي رحمه الله تعالى في شرح السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الكعبة قبلة من في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب.
وقد اتفق المسلمون على أن التوجه للقبلة شرط من شروط صحة الصلاة، ويستثنى من هذا حالتان: الحالة الأولى: حال القتال.
الحالة الثانية: حالة من يتنفل على ظهر الدابة حال السفر، فمن يتنفل على ظهر الدابة قبلته حيثما توجهت به دابته، وعند ابن حزم أنه يجوز حتى في داخل المدن، لكن قول الجمهور هو الصحيح، من يتنفل على دابته في سفر قبلته حيثما توجهت به دابته.
والمقاتل لاسيما المسايف قبلته جهة أمنه، أي وجهة يغلب على ظنه أنه يأمن بها تكون هي قبلته، كما أن الدابة حيثما توجهت هي قبلة من يصلي عليها متنفلاً.