الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السموات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار الإسلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذا اللقاء المبارك نستفتح الحديث عن أول آيات الجزء الثاني من كلام ربنا جل وعلا من كتابه العظيم، قال الله وهو أصدق القائلين: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
الذي ينبغي أن تستصحبه وأن تقرأ هذه الآية أن هذه الآية مقدمة على النسخ، بمعنى: أنه إلى الآن لم يحصل نسخ، ولم يحصل أمر بالتولية عن بيت المقدس إلى الكعبة، وإنما هذه الآية صدرت في الأول، قال أهل العلم كما نص عليه ابن سعدي رحمة الله عليه في تفسيره: وإنما هذا تسلية ومعجزة له صلوات الله وسلامه عليه، أما كونها معجزة فظاهر، فإن الله أخبره بأمر لم يقع بعد، وأما كونها تسلية فإن الإنسان إذا أخبر بما سيتعرض له من أذى قبل أن يتعرض له فهذا يجعله أكثر تمكناً من تحمل ذلك الأمر، وهذا قد يقع إما بالرؤى أو بوصول خبر له بطريق ما، وهذا في حق البشر، أما في حق الأنبياء فيكون ذلك عن طريق الوحي.
لا بد أن نستصحب أن الله أثنى على إبراهيم، وأثنى على البيت {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، وبين ضلال اليهود والنصارى وقبل ذلك كله قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، وكل ذلك من ذكر النسخ ومدح البيت وتعظيم إبراهيم وبيان ضلال اليهود والنصارى توطئة لما سيقع، وينبغي أن تعلم أن نسخ القبلة هو أول نسخ في القرآن، فالنسخ كان في العهد المدني، وسورة البقرة من حيث الجملة من أوائل ما أنزل في العهد المدني، ولهذا مر معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: (يا أهل سورة البقرة!)؛ لأن الأنصار كانوا فرحين بها؛ لأنها أول ما نزل في المدينة، وآياتها كثيرة.
فالله جل وعلا يخبر نبيه أن أمراً سيقع بنسخ توجهك من بيت المقدس إلى الكعبة، ثم انظر كيف وطن الله لهذا في نبيه عند الناس، حتى تنقطع الحجج إلا الحجج الداحضة، فالله جل وعلا أثنى على البيت، وأثنى على بانيه؛ حتى إذا أمر الناس بعد ذلك بالتوجه إليه كان هناك ما يمهد لذلك الأمر الرباني.
نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم هاجر ومكث في المدينة ستة عشر شهراً تقريباً كما في حديث البراء بن عازب، ثم كان يكثر النظر إلى السماء أدباً مع ربه، لا يصرح ولا يخفي أملاً في أن يوجهه الله إلى الكعبة، فأنزل الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:142] والسين للاستقبال، والسفهاء لا يحسن تخصيصها فيدخل فيها المشركون واليهود والمنافقون وكل من اعترض على تحويل القبلة.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142]، لماذا قال الله: {مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142]؟ لأن السفه يكون حتى في غير بني آدم، فنقله الله جل وعلا من مجازه المتسع إلى حقيقته المختصرة، فالسفه يكون حتى في الدواب، يكون حتى في الطير، لكن الله جل وعلا عندما قال: {مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142] نقله من مفهومه الواسع الذي يمكن أن نصطلح عليه أنه توسع الناس فيها مجازاً إلى حقيقته المختصرة المخاطب بها، وهم كل من اعترض على تحويل القبلة.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142] وإلى الآن لم يحصل تحول، {الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]، فأجابهم الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142]، والمعنى: أننا نحن متعبدون بأن نعبد الله جل وعلا كما أمر، والله جل وعلا له ملك المشرق وله ملك المغرب، وليس في المشرق والمغرب تفاضل في ذاتها إنما نحن عبيد لله نأتمر بأمره.