أيضاً بما أن الهمة في القلب فقوة المؤمن تكون في قلبة بصفه أساسية، يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره).
فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير، والسفر الشاق؛ فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة، وتطيب السير والتقدم، والسبق إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو بالهمم، وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل، يوافق فيه الإسلام الإحسان، فأكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان موفياً لكل واحد منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى تتورم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويخالط أصحابه، ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئاً من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر.
والرسول عليه الصلاة والسلام بلا شك هو المثل الأعلى للبشرية كلها، ولم يطأ الحصى ولم يوجد على ظهر الأرض من هو أكمل من رسول الله عليه الصلاة والسلام في أي خصلة من خصاله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو النموذج الأكمل للبشر أجمعين، بما فيهم الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع إلى كمال القوة العلمية كمال القوة العملية، فمع علمه صلى الله عليه وسلم بالله على أكمل الأحوال كان أكمل الناس إرادة، فكان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد، ويخالط الناس، ثم هو متزوج، ومات عن تسع نسوة، فكان يدير هذه البيوت ويقودها، ويدير أمة ويبني رسالة، ويبلغ العالمين، ولم يقصر صلى الله عليه وسلم بترك أي وارد من هذه الواردات، فصلى الله عليه وآله وسلم.
إن ضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين صلاته وإرادته، فضعف الطلب وفتور الهمة لا يأتي إلا من نقصان الشعور والإحساس، أو من وجود الآفة المضعفة للحياة، فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة، وضعفها دليل على ضعفها، وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة، فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها؛ فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياتهم، كما قيل: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم الردى: أي الهلاك.
وتكدح فيما سوف تذكر غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم غبه: عاقبته.
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم