وهنا نناقش موضوعاً مهماً، وهو أن كثيراً من الناس يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فما السبب في أن كثيراً من الناس يطلبون الأدنى والأخس من الأمور؟ السبب الذي يجعل كثيراً من الناس يطلبون الأدنى من الأمور ويقصدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً: فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمة، فكلما صح العلم وانتفى الجهل وصحت العزيمة وعظمت الهمة، طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همه لقمة يسد بها جوعته، وشربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته، وهذا هو المذهب الرديء، بل هذا مذهب كان منتقصاً حتى بين أهل الجاهلية؛ فأهل الجاهلية أنفسهم كانوا يذمون من يعيش من أجل هذه المقاصد.
وفي مثل هؤلاء يقول حاتم الطائي -وقد أدرك الإسلام ولم يسلم- ومع ذلك يقول في ذم هذا الذي يعيش من أجل هذه المقاصد السفلية-: لحا الله صعلوكاً مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهما قوله: (لحا الله صعلوكاً) يعني: قبح الله صعلوكاً، والمقصود به هنا الفقير.
وقوله: (مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً)، يعني: لا يعيش إلا من أجل الملابس ومن أجل الطعام.
وقوله: (يرى الخمص تعذيباً) يعني: يرى خلو البطن تعذيباً.
وقوله: (وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهماً)، يعني ينام قرير العين؛ لأنه نائم وهو شبعان، وقوله: (مبهماً) يعني: خالياً.
ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا، كحال طرفة بن العبد، فقد قيل له: ما أطيب عيش الدنيا؟ فقال: مطعم شهي، وملبس دفيء، ومركب وطيء.
يعني: سهل.
وقال طرفة أيضاً مبيناً غايته من الحياة: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي الجد هنا: الحظ والبخت، أي أنه يحلف بالحظ.
وقوله: (لم أحفل) يعني: لم أهتم، (متى قام عودي) جمع عائد، من العيادة.
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد العاذلات جمع عاذلة، والعذل هو الملامة، وكميت: اسم من أسماء الخمر، يعني: أنه شرب خمرة فيها حمرة وسواد.
والزبد: الرغوة التي تكون فوق الخمر.
وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا نبهته المتورد الكر هو: العطف، وقوله: (إذا نادى المضاف محنباً)، يعني: الذي في يده انحناء.
وقوله: (كسيد الغضا)، الكسيد هو: الذئب، والغضا: الشجر.
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد فهذه الأبيات لهذا الشاعر تبين همته.
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد وقوله: (تقصير يوم الدجن)، الدجن هو: الغيم حين يملأ آفاق السماء، وتقصيره يعني: جعل هذا اليوم قصيراً، أي: أنه يشعر أن اليوم قصير، كيف يقصره؟ بأن يقضيه مع امرأة حسناء.
وقوله: (ببهكنة) هي: المرأة الحسنة الخلق السمينة.
وقوله: (تحت الخباء المعمد)، يعني: تحت الخيمة التي رفعت بالأعمدة.
فكثير من الناس همه من دنياه هم هذا الشاعر المسكين، فهمته شرب الخمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من الناس من تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف والمستجير.
وبهذا الشاعر اقتدى أبو نواس؛ فـ أبو نواس يتحدث عن غايته من الحياة فيقول: إنما العيش سماع ومدام وندام فإذا فاتك هذا فعلى العيش السلام هذا الذي يعيش من أجله، وهذه هي غايته في الحياة.
فقوله: (إنما العيش سماع)، يعني: موسيقى وألحان.
وقوله: (ومدام وندام)، المدام هو: شرب الخمر، والندام: جلسات المنادمة، والندامى هم الذين يجلسون ويسهرون في الخمر.
وهذا جميل بثينة شاعر قصر همته على ملاحقة النساء، يذكره أحدهم ويأمره بأن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله فيجيبه قائلاً: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد فهذه نماذج من همم بعض الناس وغاياتهم في الحياة؛ حيث إن همتهم هي في النساء، والمناصب، والأموال، والغنى، وقد يكون لبعض الناس مسعى ومطلب يعده من علو الهمة، كحال امرئ القيس عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانطلق جاداً طالباً إعادة هذا الملك، وطبعاً نحن لا نقول: إن هذا من علو الهمة، لكن نحن نبين حال هذا الصنف، وهذا بالنسبة لما مضى يعتبر أعلى، لكن ليس هذا هو علو الهمة المراد، فلا يكون الإنسان عالي الهمة إلا إذا رجا الآخرة، وهذا سنفصله إن شاء الله.
فـ امرؤ القيس لما أفاق من السكر والعبث فوجد ملك أبيه قد ضاع، أنفق عمره في البحث عن استرداد ملك أبيه الضائع، وجعل يقول: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وطال استطلابه للملك حتى قضى نحبه في طلبه، وهو القائل: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عيناك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا فضيع حياته أولاً في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي من بعده طلباً للملك والإمارة، فأعياهما الطلب، وما أكثر الذين طلبوا الملك والرئاسة وألحوا في طلبها، فحامت حول الملك همتهم، وطافت به عزيمتهم.
كان الأديوردي -وهو من الشخصيات النادرة في التاريخ الإسلامي، وهو من الأمويين- يدعو عقب كل صلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها.
يعني: كانت هذه همته، وله في ذلك الأشعار الفائقة التي تكشف عن شخصية ونفسية شديدة الشبه بشخصية المتنبي.
وقيل لـ يزيد بن المهلب: ألا تبني داراً؟ فقال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
أي: أنه لم يكن متخذاً منزلاً ولا داراً، فلما قال له رجل: ألا تبني داراً؟ قال: منزلي إما دار الإمارة، وإما الحبس.
يعني: أن هذا هو الهدف الذي يعيش من أجله.
وقال آخر: وعش ملكاً أو مت كريماً وإن تمت وسيفك مشهور بكفك تعذر