ونذكر الفرق بين المنافسة والحسد، فالمنافسة: هي المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده عند غيرك، فترى غيرك فيه من الصفات الكاملة، فأنت تحث نفسك إلى منافسته، وتبادر إلى أن تتحلى بهذا الكمال، فتنافسه حتى تلحق به أو تجاوزه إذا كنت أعلى همة منه، فثمرة المنافسة بلوغ المطالب العالية، وهي ثمرة من ثمار شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، يقول الله تبارك وتعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فهذا أمر بالتنافس، وقوله: (وَفِي ذَلِكَ) يعني: في الجنة ونعيمها يحق لكم أن تتنافسوا فيها، والمنافسة: مأخوذة من النفاسه، والشيء النفيس: هو الذي تتعلق به النفوس طلباً ورغبة، فهذه النفس تنافس النفس الأخرى في الحصول على هذا الشيء النفيس، وسمة هذا التنافس في أمور الآخرة أن الإنسان يفرح إذا شاركه غيره فيه، وهذا أمر مهم جداً، وخصوصاً بين طلبة العلم، وبين طالبي المقاصد الأخروية، الذين كبرت هممهم، وكما ذكرنا من قبل أنّ كبير الهمة لا يرضى ولا يقنع بما دون الجنة، فهو يريد الآخرة، فإذا كان الناس الذين يتسابقون في مجالات الخير، كالدعوة، والتعليم، وطلب العلم، وغير ذلك من الأمور الخيرية يريدون الآخرة فإن الأمور ستستقيم لهم؛ لأنهم محضوا نيتهم للآخرة، فإذا دخلت الدنيا ولو تحت ستار الدين فإنه يقع التحاسد المذموم، والتنافر المشئوم؛ لأنه في هذه الحالة سيكون التنافس على الجاه أو الشهرة، حتى يتحدث الناس بأن فلاناً عالم أو عابد أو كريم أو سخي أو قارئ للقرآن إلى غير ذلك من هذه المقاصد، وإذا انحرفت النية عن الآخرة إلى الدنيا فهنا سيقع التحاسد، فالذي يشعر بصفة الحسد إذا وجد أخاه يبادره التسابق في طلب العلم، أو في عبادة، أو غير ذلك، فهذا دليل على مرض في قلبه، وأنه يريد الدنيا لا الآخرة؛ لأن الآخرة واسعة وفسيحة تتسع للجميع، وأما الدنيا فضيقة، ولا يتحمل الناس بعضهم بعضاً إذا طلبوها؛ ولذلك فإن الدنيا من شأنها أن تفرق الناس، فنجد الناس بينهم من الود والمحبة والروابط القوية شيء عظيم جداً، فإذا اشتركوا في تجارة، أو اشتركوا في مشروع تجاري ففي الغالب أن الدنيا تئول بهم إلى الخصام والتنافس المحرم والتحاسد وفساد ذات البين، وقد تكون هناك استثناءات، وهذا شيء نادر.
وأما إذا أرادوا الآخرة فإنها توحد بينهم، فالنفس السليمة، والقلب السليم يفرح إذا تنافس مع غيره في أمور الآخرة، ولا يشعر بحزن ولا بحسد، ولا يتمنى زوال النعمة عن الآخرين، فالداعية الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، أو يعلم الناس، أو يربيهم مقصده أن يهديهم إلى ربهم الله عز وجل، وأن يسلكوا طريق الطاعة، فإن كان مخلصاً لله سبحانه وتعالى فإنه يحب أن يشاركه هؤلاء في الخير الذي هو فيه، فإذا كان كل همه أن يسوقهم إلى الهداية وإلى الجنة، فكيف يحسدهم إذا منّ الله عليهم بالهداية؟! فالداعية يحب أن كل الناس يسلكون هذا الطريق إلى الآخرة، وحتى لو سبقوه لا يجد في نفسه، بل يحركه ذلك إلى المنافسة المشروعة التي أمرنا بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين)، أما أن يقع التنافس المذموم على الجاه، أو على الشهرة، أو نحوها فهذا معناه أننا خرجنا من طلب الآخرة إلى طلب الدنيا، ومن ثَمّ يأتي شؤم طلب الدنيا من الخصام والفساد وغير ذلك، فالنفس الشريفة تفرح إذا شاركها غيرها في التنافس في أعمال الآخرة، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض؛ لاشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً على تنافسهم فيه، فهم يتنافسون ومع ذلك يحض بعضهم بعضاً عليه، وهذا من المسابقة، وقد قال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال أيضاً: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يسابق أبا بكر رضي الله تعالى عنه وينافسه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فكان عمر يطمع في أن يغلب أبا بكر مرة، وأنّ يسبقه في أي باب من أبواب الخير، فلم يظفر بسبقه أبداً مع شدة حرصه على أفعال الخير، فكلما شرع في شيء يفاجأ بأن أبا بكر قد سبقه إليه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه رضي الله عنهم يوماً سؤالاً مفاجئاً فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً -فهنا يتعين عليهم الجواب؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يسألهم- فقال أبو بكر: أنا، فقال: من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: من شيع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده! ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا أدخله الله الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فـ الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه لم ينل هذه المرتبة والمنزلة -وهي كونه أفضل أولياء الله على الإطلاق- بالأماني، ولا بالكسل، ولا بالعجز، وإنما نالها بالمجاهدة والمنافسة في الخيرات، بحيث لم يسبقه أحد رضي الله تعالى عنه، فـ عمر مع حرصه على مسابقته لم يستطع أن يسبقه، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم لو سأل أسئلة مزيدة ربما أيضاً لم يجب إلا أبو بكر رضي الله عنه، فلو سأل من قام الليل؟ من فعل كذا وكذا من أفعال الخيرات؟ فالغالب -والله تعالى أعلم- أنه كان سيقول: أنا، دون غيره أو يشارك غيره فيه، فلما علم عمر رضي الله عنه أنّ أبا بكر قد استولى على الإمامة -أي: تمكنت منه خصال الإمامة في الدين- قال لـ أبي بكر: (والله! لا أسابقك إلى شيء أبداً!) وقال أيضاً: (والله! ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه!).
فالمتنافسان كعبدين يتباريان بين يدي سيدهما، فيتنافسان في مرضاته، ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما، ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر، ويحرضه على مرضاة سيده، ولله المثل الأعلى.
أما الحسد: فخلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة، ليس فيها حرص على الخير، وهذه النفس قد تمكن منها العجز والمهانة، حتى أنها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم.
إن الحاسد عدو نعم الله سبحانه وتعالى، وعدو قدر الله عز وجل واختياره، فليس همه أن يكون مثل ذلك الشخص المحسود كما هو الحال في الغبطة، بل كل همه، ومنى قلبه أن تزول النعمة عن المحسود، فهو عدو نعم الله كما قال العلماء، فهو يتمنى أن تزول من عند غيره، وربما يتمنى أن تحل فيه، فالمهم أنه يحب أن يرى في الآخرين غُصَص العدم والفقر، كما قال تعالى عن هذا الصنف: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، ولذلك فالحسد لا يمكن أن يكون من أخلاق المؤمن، بل هو صفة من صفات الكفار كما قال تبارك وتعالى أيضاً: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، فالحسود عدو النعمة، ويتمنى زوالها عن المحسود كما زالت عنه, والمنافس مسابق النعمة، ويتمنى تمامها عليه وعلى من ينافسه، فهو ينافس غيره حتى يسبقه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسات، فمن جعل نصب عينيه شخصاً من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيراً، فإنه يتشبه به، ويطلب اللحاق به، والتقدم عليه، وهذا لا نذمه؛ لأننا أُمرنا بالمنافسة في أمور الآخرة، وأمرنا أيضاً بالنظر إلى من هو فوقنا في الدين، والنظر إلى من هو أسفل منا في الدنيا، فعليك أن تنظر إلى من هو فوقك في الدين؛ حتى تقتدي به، وهذا هو الميزان الصحيح، أما الآن فتجد بعض الناس ينظر إلى من هو أسفل منه في الدين، فضاع بسبب ذلك كثير من الناس خاصة العوام، لذلك إذا كلمت أحدهم -مثلاً- وقلت له: لماذا تجلس أمام التلفاز وترى الأشياء المحرمة؟ ولماذا تشتغل بالشطرنج والنرد والطاولة والدومينو وغير ذلك من هذه الأشياء؟ فيقول: نحن الآن أحسن من غيرنا ممن يجلس يغتاب الناس، ويأكل لحومهم وأعراضهم، فهو ينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه ممن يقوم الليل، ويحفظ القرآن، ويحضر مجالس العلم، فهذه من علامات خسة الهمة، أعني: أن ينظر في الدين إلى من هو أسفل منه، وربما تحرق قلبه حسداً على من هو أعلى منه في الدنيا، مع أنّ العاقل لا يحسد على الدنيا.
قال بعض السلف: من أحسد؟ هل أحسد مؤمناًَ آتاه الله شيئاً من الدنيا، وقد أعد الله له الجنة؟! فما تساوي هذه الدنيا بالنسبة إلى الجنة التي تنتظره؟! أو هل أحسد كافراً فمهما بلغت الدنيا التي بين يديه فمآله إلى خلود في النار؟ فهل أحسد المؤمن أم الكافر؟ فلا أحسد الكافر الذي مهما تمتع في الدنيا فمصيره إلى النار في الآخرة، ولا أحسد المؤمن الذي مهما أوتي من الدنيا فإن الآخرة التي هي أعظم خيراً من الدنيا تنتظره.
إنّ ساقط الهمة ينظر دائماًَ إلى من هو أسفل منه في الدين فيقول: أنا خير من فلان، ونحن لا نقعد نأكل أعراض الناس، ونغتاب، ونفعل كذا، وإنما نجلس نتسلى بالطاولة، أو الشطرنج، أو التلفزيون، فهو يظن أن هذه ليست مصيبة في الدين! وهذا خذلان من الله سبحانه وتعالى، فالتنافس في الدين لا يذم، بل يجب عليك أن تتطلع إلى من هو أعلى منك لتقتدي به، وهذا هو معنى الائتمام بالأفاضل في الدين، فالائتمام بهم هو المسارعة إلى اللحاق بهم.
وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمودة المشروعة، كما في الصحي