قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجنة أعاضهم أفضل منها، وهو ما أعطاهم من عهده الذي جعله سبباً موصلاً لهم إليه، وطريقاً واضحاً بين الدلالة عليه، من تمسك به فاز واهتدى، ومن أعرض عنه شقي وغوى، ولما كان هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه أبداً إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصول إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه.
هذا تشبيه آخر للعلم والإرادة، فالإرادة هي الباب، ومفتاح الباب هو العلم، يعني: لابد من الاثنين معاً، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: همة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه، فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، ولا يخيب إنسان ولا تفوته السعادة إلا بتقصير في جانب من هذين الجانبين، أو من أحدهما؛ إما ألا يكون له علم بها، كأن يجهل مراتب الآخرة والغايات العليا، فإذا كان يجهل هذه الفضائل فكيف سيتحرك إليها؟ وكيف سينبعث قلبه في طلبها؟ فإن كل إنسان إما ألا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالماً بها، لكن لا تنهض همته إليها، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام، راعياً مع الهمل، واستطاب لقيعات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله.
قال: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرف العلم تابعاً لشرف معلومه، وهذه قاعدة معروفة، يعني: أن شرف العلم حسب شرف المعلوم، فليست دراسة علم الحشرات مثل دراسة الطب البشري، لأن صحة البشر أهم من الحشرات؛ وهكذا مراتب العلوم تتفاوت بحسب المعلوم، وشرف العلم بشرف المعلوم، ولذلك كانت أشرف العلوم على الإطلاق هي علوم الدين، فهي أشرف من علوم الدنيا بلا شك، وعلوم الدنيا أشرفها علم الطب؛ لأن الطب هو أشرف مطالب الدنيا، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو صحته وعافيته، لكن علوم الدين أشرف من كل علوم الدنيا، ثم علوم الدين تتفاضل فيما بينها بحسب العلم الذي تؤدي إليه، فهناك علوم هي عبارة عن وسائل فقط، كالنحو والتجويد والمصطلح وأصول الفقه ونحوها، فهذه علوم خادمة لعلوم الدين.
ثم هناك علوم أشرف، وهي العلوم المخدومة كالتوحيد، والتفسير، والفقه، ثم أشرف هذه العلوم المخدومة على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه هو العلم الذي يعرفنا بالله، ويعلمنا صفات الله سبحانه وتعالى وحق الله علينا، فبالتالي كان أشرف العلوم على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ولا معلوم أشرف من معرفة الله سبحانه وتعالى.
يقول: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابعاً لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها، أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، ولا سبيل له إلى هذا المطلب الأسمى والحظ الأوفى إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعياً، وأقامه على هذا الطريق هادياً، وجعله واسطة بينه وبين الأنام، وداعياً لهم بإذنه إلى دار السلام، وأبى سبحانه أن يفتح لأحد منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحد منهم سعياً إلا أن يكون مبتدئاً منه، ومنتهياً إليه صلى الله عليه وسلم.
ثم تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على أقسام الناس من حيث القوتين: العلمية والعملية، فالناس يتفاوتون، ولا يخرج أحد من هذا التفصيل، يقول رحمه الله: وكمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، فالمعرفة قوة علمية، والإيثار قوة عملية، ولذلك جاء في الأثر: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه)؛ لأن الإنسان قد يرى الحق حقاً لكن لا يتبعه، كاليهود الذين كانوا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون صفاته، ويجزمون بأنه رسول الله، لكنهم لم يرزقوا ولم يلهموا ولم يوفقوا إلى اتباعه والانقياد لشريعته.
فإذاً: الأمر الأول: معرفة الحق.
الأمر الثاني: اتباع الحق وإيثاره على ما عداه؛ لأن الإنسان قد يعرف الحق، ولكن يؤثر عليه ما عداه، كما في هذا الأثر، وهو ينسب إلى أبي بكر: (اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه)؛ لأنه ممكن أن الإنسان يزين له سوء عمله، فيرى الباطل في صور مزينة، ويحسب أنه على شيء، كعامة ملاحدة هذا الزمان من الإعلاميين والصحفيين الذين اغتروا بكثرتهم وصوتهم العالي، وكيف أنهم يتكلمون وكأنهم أصحاب حق، وكلهم جزماً مبطلون وأهل ضلال ومعاداة لدين الله سبحانه وتعالى، فهذا من تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم.
فهؤلاء يرون الباطل حقاً، وتراهم مستعدين أن يقاتلوا في سبيل هذا الباطل، وأن يبذلوا النفس والنفيس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن أراه الله الحق حقاً ثم رزقه اتباعه وإيثاره، وأراه الباطل باطلاً ورزقه اجتنابه، فهؤلاء هم الذين رزقوا علماً، وأعينوا بقوة العزيمة على العمل، وهؤلاء هم الموصوفون في القرآن الكريم بقوله تعالى: (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
فكونهم آمنوا هذا من التصديق، وهذه قوة علمية، وكونهم عملوا الصالحات هذه هي القوة العملية، وقال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، ولا يخرج منها لأنه مقتنع بها، ويرى أنها هي الحق.
فحياة القلب تنال بالعزيمة، وبالنور يرزق الفرقان بين الحق والباطل.