والهمة طليعة الأعمال ومقدمتها، قال أحد الصالحين: همتك تحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال.
وعن عبيد الله بن زياد بن ضبيان قال: كان لي خال من كلب كان يقول لي: يا عبيد! هم؛ فإن الهمة نصف المروءة.
وقد بين الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الهمة مولودة مع الآدمي يقول رحمه الله: وما تقف همة إلا لخساستها، يعني: المفترض في الهمة أنها تظل تطلب طلباً معيناً، فتحققه، ثم تصبو إلى ما هو أعلى، فإذا أنجزته تصبو إلى ما هو أعلى، وهكذا.
فالهمة لا تعرف السكون أبداً، بل تتطلع إلى ما هو أعلى وأسمى، فإذا وقفت فهذه علامة خساستها وخبث طبع صاحبها.
يقول: وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فاسأل المنعم، أو كسلاً فاسأل الموفق؛ فلن تنال خيراً إلا بطاعته، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه ثم مضى بفائدة، أو حظي بغرض من أغراضه؟ وقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، بسبب عجز أو كسل أو ركون إلى وسوسة الشيطان والهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير، بأن يذكرها ويسألها: رضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله سبحانه وتعالى يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه، فعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا، فحضر العدو، فصيح في الناس -يعني: نودي بالجهاد- فوثبوا إلى مصافهم، وكان هناك رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه.
وكان هذا الرجل واقفاً، ولا يشعر بأن هذا يقف ويسمعه، وكان يخاطب نفسه ويقول: ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك.
فقلت: لأرمقنه اليوم -أي: سأراقب هذا الرجل إلى ما ينتهي أمره- قال: فرمقته، فحمل الناس على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا -يعني: انهزموا- فكان في حماتهم، أي كان مع الطائفة التي تحميهم وتدافع عنهم، ثم إن الناس حملوا مرة ثانية، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس، فكان في حماتهم، قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.
رحمه الله تعالى.
فلابد لكل من يسلك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى من هذين الجناحين؛ ليطير بهما، ولا يستقيم حال المرء إذا اقتصر على واحد منهما.
فالمرء لابد له من همة تحمله، وعلم يبصره ويهديه، فالقوة العلمية مع القوة العملية لا بد منهما، فمثلاً: من يريد أن يسافر إلى بلد معين لا شك أنه يحتاج إلى خريطة بالموقع والمكان الذي يريد أن يقصده، وفي نفس الوقت يحتاج إلى دابة أو سيارة، وهذه السيارة لابد لها من وقود، فالخريطة هي القوة العلمية التي تدله لكي يصل إلى هذا المكان، والوقود هذا هو القوة العملية، أو قوة الإرادة التي تمكنه من الحركة والانبعاث؛ لتحصيل هذا المقصود.