كسوة الأجساد وأثرها على بواطن النفوس

دخل أعرابي رث الهيئة بالي العباءة على أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه، فاقتحمته عينه، فعرف الأعرابي ذلك في وجه معاوية رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك، ولكن يكلمك من فيها.

فأدناه فإذا به مدره فصاحة في القول وبلاغة، فجعله من خاصته، والمدره: هو السيد الشريف المقدم عند الخصومة والقتال.

والإمام شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى كان إذا رآه الرائي ظنه شيخاً من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إليه أن هذا الشخص الذي يلبس هذه الملابس والذي يظهر بهذه الهيئة له أي قدر يذكر! فإذا سمعه يدرس أو يقرر أو يحدث فغر فاه وحملق بعينيه عجباً من هذه الأسمال أن تنكشف عن جوهر نفيس وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى! ولا عجب، فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة وجمال الهندام، فإذا رأوا من هذه صفته وقروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضان وفكر بائس وقلب حائر.

يقول الشاعر: ترون بلوغ المجد أن ثيابكم يلوح عليها فصلها وبصيصها وليس العلى دراعة ورداءها ولا جبة موشية وقميصها.

ويقول المتنبي: لا يعجبن مضيماً حسن بزته وهل يروق دفيناً جودة الكفن فإذا كان حياً وهو في الحقيقة ميت فهل الثياب التي يتباهى بها تنفعه مهما لمعت؟! فما هي إلا كفن؛ لأن هذا إنسان ميت لا يعيش لله ولا للإسلام ولا لطاعة الله، إنما يعيش للدنيا، فهو والميت سواء.

فإذا أعجب بما عليه من الملابس، وظن أن هذه هي قيمته فهو كالميت الذي يعجب الناس بالكفن الذي يغطيه وهو ميت! ويقول آخر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومناقب أورثن حمدا ورأينا العجب من صبر السلف على شظف العيش ومعاناة الفقر، إذ كانوا قد أحصروا في سبيل حفظ الدين، ووقفوا حياتهم على حراسة السنة، فهذا الإمام العلم إبراهيم بن إسحاق الحربي رحمه الله تعالى يقول: أفنيت عمري ثلاثين سنة برغيفين كل يوم، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الثانية! وكان أسهل شيء عليه أن يخرج لطلب الدنيا ويتجر ليغنى ويثرى، لكنه أراد أن يعز الدين، وأراد أن يتعلم الدين، وأحصر نفسه في سبيل إعزاز الدين وحماية السنة الشريفة، فمن أجل ذلك لم يتفرغ لطلب هذه الدنيا، يقول: وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف واحد في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلته، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الأخرى! ثم يقول الإمام الحربي رحمه الله تعالى: والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة، إن كان برنياً، أو نيفاً وعشرين إن كان دقلاً، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهراً، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف، ودخلت الحمام واشتريت صابوناً بدانقين، فقامت نفقة شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانق ونصف.

وقال أبو القاسم بن بكير: سمعت إبراهيم الحربي يقول: ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئاً، كنت أجيء من عشي إلى عشي وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية أو لعقة بن -وهو شحم- أو باقة فجل.

وقال أبو علي الخياط المعروف بالميت: كنت يوماً جالساً مع إبراهيم الحربي على باب داره، فلما أن أصبحنا قال لي: يا أبا علي! قم إلى شغلك، فإن عندي فجلة قد أكلت البارحة خضرها أقوم أتغدى بجزرتها! أكل الورق الأخضر في عشائه، وفي اليوم التالي يتغدى على الحذرة من الفجلة!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015