نعيد التذكير أيضاً بقضية تعاهد القرآن؛ كي لا ينساه الإنسان، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده! لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)، متفق عليه.
ولا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده! له أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)، وبين قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]؛ فإن من يسر عليه الوصول إلى جوهرة غالية فإنه لا يضمن بقاءها معه وسلامتها من قطاع الطريق إلا أن يتخذ لذلك أسباباً، فلا يوجد تعارض؛ لأن وصوله إلى حفظ القرآن من الأمور السهلة، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
وآية ذلك: أنك ترى الطفل الصغير الحدث الذي عمره سبع أو خمس سنوات قد حفظ القرآن كله، فهذه آية من آيات الله، فإن قلب الطفل الصغير يطيق حمل كلام الله عز وجل الذي لا تطيق حمله الجبال التي قال عز وجل عنها: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
فييسر الله سبحانه وتعالى للطفل الصغير حفظ كلامه بين جنبيه، فهذه آية من آيات الله، وهي مصداق قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فالذي يصل إلى إنجاز هذا الأمر -وهو حفظ القرآن الكريم- هو كمن سهل الله عليه أن يحصل على جوهرة نفيسة، وسهل الله له السبيل إلى الحصول على الجوهرة، فسلك هذا السبيل السهل، وحصل بالفعل على الجوهرة، فهل إذا حصل على الجوهرة يضمن بقاءها معه، ويضمن سلامتها معه، حتى ولو قصر في أخذ أسباب حفظها وصيانتها؟ فقوله تعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ))، هو تيسير السبيل لحصول حفظ القرآن؛ فإن حفظه سهل، لكن إذا حصلت عليه، واستنار به صدرك فيبقى عليك أن تحافظ على هذه الجوهرة وتحتاط لها، لا أن تتركها معرضة للضياع، ومعرضة لقطاع الطريق يسرقونها منك.
فلابد من الأخذ بالأسباب التي بها تحافظ على هذا الكنز الذي يسر الله لك الحصول عليه، فما هو السبيل للمحافظة على القرآن؟ هو تعهد القرآن، وكثرة المراجعة والتلاوة.
يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قام صاحب القرآن فقرأ بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه)، فهذا هو الداء، وهذا هو الدواء، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا قام صاحب القرآن فقرأ بالليل والنهار ذكره) أي: إذا واظب عليه بالليل والنهار فإنه يذكره: (وإن لم يقم به نسيه).
وهناك حديث مشهور عند عوام الناس بدعاء حفظ القرآن، وأنه إذا كان قد تفلت منك القرآن فقل هذا الدعاء، ولن يتفلت منك القرآن، وطبعاً نحن لا ننكر أن الدعاء سبب من أسباب الحصول على هذه المقاصد العالية، لكن السبب لابد معه من عمل، والعمل ينبغي أن يقترن بالدعاء، والدواء الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام هو التعاهد، أما أنك تقول: أنا سوف أقول دعاء حفظ القرآن -مع أنه حديث ضعيف وباطل- أو دعاءً معيناً وسوف يثبت القرآن في صدري، فلا، بل لابد من الأخذ بأسباب حفظه وتعهده وحمايته من أن ينسى.
وقال السيوطي: يكره أن يقول: نسيت آية كذا، بل أنسيت.
وهذا فيه حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: نسيت آية كذا، بل هو نسي).
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة؛ إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)، فإذا كان إنسان عنده مجموعة كبيرة من الجمال في الصحراء فإن هو تركها بدون خطام ولا زمام ولا إمساك ستضل في الصحراء وتتوه منه وتضيع، وإن هو حرسها وحفظها واحتاط لها فإنها تبقى معه، وهكذا نفس الشيء بالنسبة للقرآن.
فهذا هو داء النسيان وهذا هو دواءه الذي يصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا يأت واحد ويقول: إن علاج نسيان القرآن هو أن تقول دعاء حفظ القرآن؛ فإنه حديث باطل لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن نقول: عليك أن تستعين بالدعاء؛ لأن الدعاء هو الوسيلة التي بها تنال كل مقاصد الدنيا والآخرة، (وأعجز الناس من عجز عن الدعاء)، لكن لا تدعو وتقصر في الأسباب، فالدعاء سبب، وهناك أيضاً سبب آخر ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو: تعاهد القرآن بالمراجعة، وبالختم وبالحفظ المستمر، ففي هذا الحديث الإخبار بأن القرآن يذهب عن صاحبه وينساه إلا من يتعاهد عليه ويقرأه ويدمن تلاوته.
وذكر ابن عبد البر حديثاً رواه سعد بن عبادة وهو الحديث السابق الذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة وهو أجذم)، رواه الدارمي، وقال الإمام ابن عبد البر: معنى أجذم عندي: منقطع الحجة.
أي: يلقى الله سبحانه وتعالى ولا حجة له.
وإن كان بعض العلماء قالوا: إن المقصود بالنسيان هو ترك التطبيق، وترك العمل بكلام الله سبحانه وتعالى.