لا نستغرب احتفاء هذه الأمة المحمدية بالقرآن الكريم، حيث نقطع بالقول بأنه لا يوجد كتاب على وجه الأرض منذ أن أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لا يمكن أبداً أن يتصور وجود كتاب خدم مثلما خدم القرآن الكريم، أو نال من الاهتمام والاحتفاء والتكريم ما ناله القرآن الكريم.
فليس في الدنيا كتاب وضعت في خدمته مثل هذه الكثرة من المواهب التي وضعت في خدمة القرآن الكريم، ولا مثل هذه الوفرة من العمل والوقت والمال، فقد عني المسلمون بالقرآن عناية لم يظفر بها على مدى التاريخ كله أي كتاب سماوي أو غير سماوي، ولعل من مظاهر هذه العناية هذه الأعداد الضخمة من الكتب الجليلة التي خدمت علوم القرآن منذ أقدم القرون الإسلامية، وهذه البحوث والفنون التي كان القرآن دائماً موضوعها.
فقد عني القراء بضبط لغات القرآن، وتحليل كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعدد كلماته وآياته، وسوره وأحزابه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، وحصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة.
واشتغل النحاة بالمعرب منه من الأسماء والأفعال، وبيان الحروف العاملة وغيرها، وتكلموا في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال، واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وتوسعوا في شواهده، حتى لقد أحصوا منها فيما قيل: ثلاثمائة ألف بيت من الشعر.
يقول مصطفى صادق الرافعي تعقيباً على هذا: ولعمر أبيك إنها لمعجزة في فنها.
وبلغ من عناية بعضهم بالقرآن أن أعربه كلمة كلمة.
والتفت المفسرون إلى ألفاظه ومعانيه فأوضحوا الخفي منها، وخاضوا في ترجيح المعاني التي يختارونها للألفاظ.
وقد ذكر حاجي خليفة من تفاسير القرآن وكتب معانيه ومشكله ومجازه وغريبه ولغاته وقراءاته، ذكر من هذا بعض ما عرف في زمانه، فبلغ ما ذكره مئات كثيرة، فما بالك بما يبلغ في زماننا الآن من الدراسات التي خدمت كتاب الله عز وجل؟! واتجه الأصوليون إلى القرآن يستنبطون مما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية وعلم أصول الدين، كما يستنبطون منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، والتخصيص والإخبار، والنص والظاهر، والمحتمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي، والنسخ إلى غير ذلك من الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء.
وتخصص علماء الفروع في إحكام النظر والفكر فيما في القرآن من الحلال والحرام وسائر الأحكام.
وأخذ أهل التاريخ والقصص من معين القرآن تاريخ الأمم الخالية، وقصص القرون السالفة.
واعتمد الخطباء والوعاظ في وعظهم على ما في القرآن الكريم من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكر الموت، والميعاد والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار.
كما استخرج أصحاب علم المواقيت قواعد علمهم من آيات القرآن الكريم.
كذلك استنبط البلاغيون علوم المعاني والبديع والبيان من نظرهم إلى ما في القرآن من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع، والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك.
ومن معاني القرآن ودقائقه أخذ المتكلمون في الجوانب الروحانية مصطلحات فنهم، وقبسوا أنوار تاريخهم.
وخلاصة الكلام: أن القرآن الكريم حظي من الاهتمام ما يقطع بأنه لم ينله على الإطلاق أي كتاب في هذا الوجود، والحمد لله رب العالمين.