وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (الفوائد) حينما كان يتكلم عن هذه الآية في سورة الفرقان أنواع الهجر فقال: هجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
الثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته ظنية لا يحصل بها العلم.
الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
الخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.
وهذه بلا شك من أعم المصائب الآن، فنحن لا ننتبه إلى أن كل ما فينا من أمراض -خاصة الأمراض القلبية- إنما دواؤها في القرآن الكريم، كما قال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، فكأننا لا نوقن بهذا الكلام، فنحن نتلوه لكن لا نتدبره، ونطلب الشفاء في غير كلام الله سبحانه وتعالى.
ونجد كثيراً من الناس يدعون الشباب -مثلاً- إلى قراءة (إحياء علوم الدين) أو كتب الصوفية أو كذا وكذا، ويشغلونهم بهذا، مع أن الدواء الناجع لقلوب المؤمنين هو الاشتغال بكلام الله عز وجل، وأصبح حالنا كحال الشاعر الذي قال: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول بل حالنا أسوأ من حال العيس؛ لأن العيس -وهي: الجمال أو النوق- التي تحمل الماء فوق ظهورها ويكاد يقتلها الظمأ قد لا تعرف أن الذي فوق ظهرها ماء، وإذا عرفت فقد لا تستطيع أن تصل إليه، لكننا نحن نعرف أن دواءنا في القرآن الكريم، وأن شفاء قلوبنا في كلام الله عز وجل، فبالتالي نكون أسوأ حالاً من العيس التي يقتلها الظمأ في البيداء والماء فوق ظهورها محمول.
فكل من أراد أن يداوي قلبه فعليه أن يقبل على القرآن؛ فإن القرآن الكريم هو الذي يعالج ما في قلبه من الأمراض والشهوات والأدواء.
فيقول ابن القيم: النوع الخامس من هجر القرآن الكريم: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.
قال ابن القيم: وكل هذا داخل في الآية، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
وفي الإكليل يقول السيوطي: إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه.
وقال أبو السعود في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]: فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن؛ كي لا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم.
ثم قال: وفيه من التحذير ما لا يخفى، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا.