من أسباب الارتقاء بالهمة: التحول عن البيئة المثبطة، فلا شك أن البيئة المحيطة بالإنسان لها أثر جسيم لا يخفى، فإذا كان الإنسان يعيش في بيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون، فإن الشخص لا يستطيع أن يرقى بهمته إلا إذا هجر هذه البيئة وتحول عنها وأبدلها ببيئة عالية الهمة، لذا لابد أن يهجرها؛ لكي يتحرر من سلطان تأثيرها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية.
يقول الشاعر: تقول ابنة السعدي وهي تلومني أما لك عن دار الهوان رحيل فإن عناء المستنيم إلى الأذى بحيث يذل الأكرمون طويل وعندك محبوك السراة مطهم وفي الكف مطرور الشباة صقيل يعني: أنها تلومه على أن يبقى في دار الهوان والمذلة، وتحثه أن يتحول ما دام يقدر على ذلك، وتخبره أنه يعيش عناءً طويلاً ما دام يعيش الشذاة في هذه البيئة المثبطة.
وقوله: (وعندك محبوك السراة مطهم) المحبوك هو الفرس القوي الشديد، وسراة الفرس هي: أعلى ظهره، ومطهم هو: التام المتناهي في الحسن.
وقوله: (وفي الكف مطرور الشذاة صقيل) المطرور: ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، والشذاة: هي حد طرف السيف، والصقيل: المشحوذ يعني: ما دام عندك فرسك ومعك سيفك، فلماذا تبقى في دار الهوان؟ ارحل إلى حيث تعز.
وأفضل من هذا أن نستدل بالأدلة الشرعية التي جعلت التحول عن مثل هذه البيئة التي تفسد الدين وتفسد الهمة فرضاً على المسلم، أليس قد فرض الله سبحانه وتعالى على المسلم أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام؟ أليس قد قال العلماء: إن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن دار المعصية إلى دار الطاعة باقية؟ إذاً: هي سنة ماضية، وهذا المبدأ الذي نناقشه هو حتمية التحول من البيئة المثبطة، فالإنسان بلا شك إذا وجد في مثل هذه البيئات فإن ذلك ينال من همته منالاً، وآية ذلك ما نراه في أغلب الذين يعيشون في بلاد الكفار ويرتضونها بديلاً عن بلاد المسلمين، حيث نجد منهم الرضا بالدنيا، وأن أحدهم لا يستطيع بعد ذلك أن يتحمل أن يأتي ويعيش مع المسلمين، وهذا إذا لم ينظر إلى المسلمين في بلاده بنظرة التعالي والاحتقار والازدراء، فالإنسان بلا شك يتأثر شاء أما أبى بمثل هذه البيئات المنحرفة.
وأشد الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة وتنشيط الهمة هو حديث عهد بالتوبة، فالإنسان في بداية توبته أحوج الناس إلى هذا التحول عن البيئة المثبطة؛ لأنه إذا تحول عن بيئة المعصية والفسق إلى بيئة الطاعة والاستقامة فإن هذا من شأنه أن ينسيه ما يجذبه إلى صحبة السوء وأماكن السوء، وأما إذا بقي وفيه الضعف البشري، وعنده الذكريات، ويبقى في الأماكن التي أتى فيها المعاصي، وفيها صحبة السوء، والأصدقاء الذين يراهم ويرونه، فإنه يصعب عليه أن يستقيم؛ لأن هذه العوامل المثبطة تجعله ينجذب باستمرار إلى هذا الفسق، فالأمر كما يقولون: الإنسان إذا أبعد شيئاً عن عينيه فإنه يذهب أيضاً عن قلبه، فالتحول عن البيئة المثبطة والبيئة الفاسقة مما يعين الإنسان على أن ينسى معاصيه وصحبة وأماكن السوء، فيجتمع قلبه ويلتئم شمله، وتتوحد همته، وتتوجه بصدق وعزم إلى أسلوب من الحياة جديد، وهذا هو عين ما أشار به العالم الواعي على قاتل المائة -كما في الحديث- حيث قال له: (ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم قال له فوراً: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء)، ولما جاءه الموت، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب كان قربه إلى القرية الصالحة بالنسبة إلى بلد السوء سبباً في قبض ملائكة الرحمة إياه، وفي بعض الروايات: (فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها) وفي رواية: (فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقاربي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) وفي بعض الروايات: (فنأى بصدره نحوها) يعني: أنه عند لحظة الاحتضار زحف بصدره كي يكون أقرب خطوة أو شبراً إلى البلدة الصالحة، فما بالك بمن بينه وبين بلاد المسلمين هذه المسافات الشاسعة التي تبلغ آلاف الأميال وهو يرضى باختياره أن يبقى في منطقة الكفار ليتمتع معهم بدنياهم، حتى ولو كان على حساب دينه؟! وكيف يكون حاله إذا قبض في مثل تلك البلاد المشئومة؟! ونفس هذا المعنى -تغيير البيئة- لعله هو العلة في تشريع نفي الزاني غير المحصن، وتغريبه سنة بعيداً عن وطنه، فالبكر الزاني عليه جلد مائة وتغريب سنة لتجتمع عليه نوعان من العقوبة: عقوبة بدنية بالجلد، وعقوبة قلبية بالنفي والاغتراب، فهذه عقوبة قلبية ونفسية، كما أن هذا الذي ارتكب هذه الفاحشة إذا نفي بعيداً عن هذه البلد التي ارتكب فيها هذه المعصية فيه مصالح جمة له؛ لأنه بهذا يبعد عن مسرح الجريمة التي مارسها، وبالتالي يعينه هذا على نسيان ذكراها، وفي نفس الوقت الإنسان إذا جلد وأقيم عليه الحد على الملأ لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، إذا وجد في مثل هذا المجتمع واشتهر بأنه فعل فعلاً من هذه الأفعال الشنيعة، لا شك أن الناس سينظرون إليه بازدراء وباحتقار وبامتهان؛ لأن هذا قد ظهر منه هذا الفسق، وبالتالي يتعرض لمضايقات، أما إذا جدد البيئة، وانتقل إلى مكان آخر حيث لا يعرف ولا يؤذى، وحيث لا يذكره أحد بهذه المعاصي، فإنه يستطيع أن يفتح صفحة جديدة، وأن يجدد العهد، وأن يستأنف التوبة الصادقة والحياة الكريمة دون أن يمتهن، ودون أن ينظر الناس إليه بامتهان واحتقار.
والحقيقة أن هذه الحكمة التربوية التي نناقشها الآن هي مسألة نسبية، يعني: ليس شرطاً أن كل إنسان يتحول من بلد إلى بلد، بل ممكن أنه يتحول من قرية إلى قرية، وممكن أن يتحول من حي إلى حي، فإذا لم يمكن هذا ولا ذاك، فإنه يستطيع أن يتحول من صحبة إلى صحبة، فإن عجز عن هذه كله فيتحول بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، فهذه الحكمة التربوية لعلها مستقاة من تلك الأدلة الشرعية كما ذكرنا، ونحن نجد تطبيقاً عملياً لها بصورة ناجحة إلى حد كبير جداً في جماعة التبليغ والدعوة، فإن جماعة التبليغ والدعوة أحد ركائز أسلوبها التعليمي والتربوي هو ضرورة نزع المدعو من بيئته وغمسه لفترة كافية في بيئة أخرى، وبغض النظر عن أحوال جماعة التبليغ، فإننا لسنا في مجال الكلام وتفصيل المؤاخذات على جماعة التبليغ، فقد سبق أن تكلمنا عليها بالتفصيل منذ زمن بعيد، لكن نحن الآن نتكلم على أن هذا واقع عملي نلمسه ونراه، ونحس بأثره، ونرى كيف يتغير سلوك الذي يأوي إليهم، بحيث تجده بعدما كان سكيراً عربيداً قاطعاً للطريق عاقاً لوالديه لصاً تجده بمجرد أن يمتزج مع هذه الجماعة يخرج من الباب الآخر رجلاً عابداً خاشعاً قانتاً صالحاً، صحيح أنهم لا يعلمونه الكثير، لكن الشاهد هو هذه الإيجابية النسبية، فأسلوبهم الأساسي في هذا هو هذا القضية التي نتكلم فيها، يعني: أن ينزع هذا الشخص من البيئة التي هو فيها، ويغمس في بيئة أخرى، فيسهل تطبيع هذا التائب بغرس قيم ومفاهيم جديدة مع التكرار باستمرار، ومع تطهيره من القيم المراد نزعها من قلبه، وبصورة سلسة وتلقائية، وفعالة، وتفسر جماعة التبليغ ذلك بمثال، وهم يتقنون جداً ضرب الأمثال، بل أحياناً تطغى عندهم على الاستدلالات الشرعية، فيقولون: إذا سقطت الجوهرة في النجاسة، فلو أردنا أن ننظف الجوهرة وهي باقية في وسط النجاسة، وبقينا نصب عليها الماء، ونصب الماء، ونصب الماء؛ فإنها لن تطهر، لكنها تطهر إذا نزعتها من وسط النجاسة بعيداً عنها ثم غسلتها، فحينئذٍ تطهر، فيقولون: إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تنظف إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها؛ سهل تنظيفها بالقليل من الماء.