إن الإنسان إذا علت همته فإنه لا يقنع بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور، فالهمم العالية لا تعطي الدنية ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور، فصاحب الهمة العالية لا يقبل أن يبقى في هامش الحياة، بل يجتهد أن يصل إلى ما أمكنه من الكمالات؛ ليقينه أنه إذا لم يزد شيئاً على الدنيا ويترك فيها بصماته في الخير وأعمال البر، فإنه سيصبح زائداً على الدنيا، وفضلة من فضلات الدنيا، أو في هامش صفحة الحياة.
يقول الشاعر: وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع ويقول الشاعر: قلت للصقر وهو في الجو عال اهبط الأرض فالهواء جديب قال لي الصقر في جناحي وعزمي وعنان السماء مرعى خصيب وهذا المرعى الخصيب الذي لا يكون إلا في الأعالي يجهله الأرضيون، حيث ثقل التراب ومطامع الأرض.
إذا ما كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم وقال صفي الدين الحلي: لا يظهر العجز منا دون نيل المنى ولو رأينا المنايا في أمانينا يعني: ما دمنا لم نحقق آمالنا، فلا يمكن أن يجد العجز واليأس إلينا سبيلاً، حتى ولو كانت المنية هي التي تدركنا في سبيل الحصول على هذه الأماني.
ويقول البارودي: فانهض إلى صهوات المجد معتلياً فالباز لم يأو إلا عالي القلل ودع من الأمر أدناه لأبعده في لجة البحر ما يغني عن الوشل قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته ويقعد العجز بالهيابة الوكل معناه: فانهض إلى صهوات المجد معتلياً، صهوات: جمع صهوة، وهو موضع السرج من ظهر الفرس، والمقصود بها ذرى المجد، فالباز: أي: الصقر، لم يأو إلا عالي القلل، أي: قمم الجبال.
ودع من الأمر أدناه لأبعده في لجة البحر ما يغني عن الوشل.
يعني: أن البحر الخضم الواسع الذي فيه الماء الوفير فيه ما يغنيك عن أن تقنع بالوشل وهو الماء القليل.
ثم يقول: قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته.
الفاتك: يعني: الجريء، والألوى أي: الشديد ويقول: ويقعد العجز بالهيابة الوكل الهيابة: هو الذي يخاف الناس وليس عنده جرأة ولا إقدام.
أما الوكل: فهو العاجز الذي إذا نابه أمر لا ينهض فيه بنفسه بل يكله إلى غيره.
فإذاً: كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته بحول الله عز وجل وقوته ما يراه غيره مستحيلاً، ولذلك نلاحظ أنه لا يمكن أبداً أن يوجد شخص من الشخصيات التي أثرت في تاريخ الأمم وأحدثت التجديد إلا لا بد قطعاً أنه كان عالي الهمة، بجانب العلم تكون هذه الإرادة، فإذا تخيلت أي عظيم من عظماء الإسلام فلا بد أن يكون من صفاته الأساسية التي لا غنى به عنها هي علو الهمة، ولذلك بهمة رجل واحد تحيا أمة بكاملها؛ لأن هذه هي تركيبته النفسية التي وهبه الله سبحانه وتعالى هذه القوى العظيمة، حتى إنه يتحدى ما يكون بالنسبة لغيره مستحيلاً، وينجز بحول الله عز وجل ما ينوء به العصبة أولو القوة، ويقتحم بتوكله على الله الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء، يقول الشاعر في مثله: له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر.
يعني: له همم تطمح وتصبو إلى ما لا نهاية، وأصغر همة عنده أجل وأعظم من الدهر!