من أسباب الارتقاء بالهمة: كثرة ذكر الموت؛ لأن كثرة ذكر الموت يدفع إلى العمل للآخرة والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة، فكل هذه المقاصد الشريفة إنما تحصل بكثرة ذكر الموت، فعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة، فقال: علامَ اجتمع عليه هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أأرضى الله أم أسخطه؟ وأبكاني فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار).
وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى الأموات.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي: أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير.
وعن عطاء قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون.
فانظر إلى فعل هذا الإمام العلم المجدد، كيف كان يجمع الفقهاء، وما الموضوع الذي كانوا يجتمعون عليه؟ هل هو مناقشة انتخابات مجلس الشعب، أو مباريات الكرة، أو كذا وكذا؟! كلا، بل كانوا يجتمعون من أجل ذكر الموت والقيامة والآخرة ويبكون، ولا شك أن هذا النوع من الاجتماعات الآن نادر جداً، فأغلب الاجتماعات إما أن يخوض الإنسان فيها فيما لا جدوى من ورائه، وقد يحصل بين طلبة العلم مجالس يجري فيها مباحثات حول قضايا علمية ومناقشات مثلاً، لكن قل أن نسمع أن مجموعة من الإخوة تواعدوا على أن يلتقوا ويذكر بعضهم بعضاً بالموت وبالآخرة وبالقيامة.
وقال الدقاق: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوجل بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
كما أن مشاهدة المحتضرين وملاحظة سكرات الموت ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته مما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويزيل عن الأجفان النوم، وعن الأبدان الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب.
ذكر عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، فو الله! لقد رأيت مصرعاً لا أزل أعمل له حتى ألقاه.
وقال اللبيدي: وجدت بعد موت أبي إسحاق الجبنياني رحمه الله رقعة تحت حصيرة مكتوبة بخطه، يعني: أنه كان يذكر نفسه بما كتب على هذه الرقعة، وهذا شيء معهود عن السلف، حيث كان الواحد منهم يكتب موعظة مختصرة تؤثر في قلبه جداً، فيضعها في جيبه أو كمه، فإذا خشي الغفلة أو شيئاً من هذا نظر فيها، ثم أعادها، وكان بعضهم يختم مثل هذه العبارات على الخاتم؛ كي تذكره باستمرار بما ينبغي ألا ينساه، فهذا الإمام أبو إسحاق الجبنياني وجدوا بعد موته رقعة مكتوباً فيها: رجل وقف له هاتف، فقال له: أحسن عملك، فقد دنا أجلك، فقال لي ولده عبد الرحمن: إنه كان إذا قصر في العمل، أخرج الرقعة فنظر فيها ورجع إلى جده.
ما زال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمال فأصابه مستيقظاً متشمراً ذا أهبة لم تلهه الآمال فبلا شك أن الإنسان الذي يتذكر الموت ويكثر من ذكره يتأهب للقاء الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا سيثير فيه الاستيقاظ والانتباه باستمرار؛ لأن موعد خروج روحه لا يأتي نذير بين يديه وإنما يأتي فجأة، ويأتي بغتة دون نذير سابق، فروحك في يد غيرك، لا تدري متى يقبضها.