تنقل القسيس رحمة برلومو بين الكنائس النصرانية

ثم يقول عند ذلك عزمت على الخروج من الكنيسة وعدم الذهاب إليها، وكان ذلك سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين، حيث خرجت فعلاً ولم أعد أتردد على الكنيسة، وليس معنى ذلك أنني خرجت ذلك الحين من الديانة النصرانية نفسها؛ لأنه -كما هو معلوم- هناك كنائس ومذاهب شتى في الديانة النصرانية، فهناك الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكس، وغيرها كثير، حتى إنني أستطيع أن أقول: هناك أكثر من ستين وثلاثمائة مذهب في الديانة النصرانية، فصدق الله العظيم حيث يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].

ثم قال: وقد يقول قائل: إن في الإسلام أيضاً توجد مذاهب وطوائف عدة، فهناك المذاهب الأربعة المعروفة: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية وغيرها؟!

و صلى الله عليه وسلم إن أتباع هذه المذاهب لا يختلفون في أصول الدين، بل يتفقون جميعاً على أن الله واحد لا شريك له، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يتفقون في أركان الإسلام الخمسة، وجوانب الخلاف بينهم في الفروع فقط لا في الأصول، وخلافهم رحمة، كما ورد في الأثر.

أما في الديانة المسيحية فالأمر مختلف تماماً، فالخلاف في صلب العقيدة، وهذا هو الفارق بين الإسلام والنصرانية، ومهما اختلفت المذاهب في الإسلام فإنك لن تجد مسجداً يخص مذهباً معيناً دون سائر المساجد، بل على العكس من ذلك، فإذا نادى المنادي للصلاة تجد كل مسلم يدخل أقرب مسجد ليصلي فيه، ولكن الأمر مختلف تماماً في الديانة النصرانية، فكل كنيسة تتبع مذهباً معيناً، ولا يدخلها إلا أتباع ذلك المذهب فحسب.

فالكاثوليكي لا يصلي في كنيسة الأرثوذكس، والبروتستانتي لا يصلي هو الآخر في كنيسة كاثوليكية، وهكذا.

ثم قال: وذات يوم لقيت صديقاً لي، فدعاني إلى الكاثوليكية، وأخذ يعدد مميزات هذا المذهب، ولم أجد مثلها في المذهب الفلاني، فقال صديقي: عندنا في الكاثوليكية توجد حجرة الغفران، وهي عبارة عن غرفة في الكنيسة يجلس فيها قس ذو لحية كثيفة يرتدي لباساً أسود، ويقعد على كرسي عالٍ، ومن طلب العفو والغفران ذهب إليه وردد بعض الألفاظ غير المفهومة، وما إن يكاد يفرغ من قراءتها حتى يقال له بأنه بريء من ذنوبه ويرجع كيوم ولدته أمه، وهكذا قال لي صديقي: ويرجع كيوم ولدته أمه.

وأضاف قائلاً: كل ما تقترف يداك من الذنوب خلال أيام الأسبوع كفيلة بأن يغفر لك عند ذهابك إلى الكنيسة يوم الأحد، وحصولك على الغفران.

فأنت لا تحتاج إلى الصلاة ولا إلى العبادة، ولكن إذا تركت ذلك كله وذهبت إلى القس واعترفت أمامه غفرت ذنوبك.

يقول الأخ رحمة برلومو: لقد تذكرت ما يفترضه الإسلام في ذلك، وهو أن البشر مهما علت رتبة أحدهم لا يمكن أن يوكل إليه غفران ذنوب العباد، كما أن التوبة والمغفرة لا تسقط التكاليف والفرائض، بل لا بد للتائب من أن يؤدي الصلوات الخمس اليومية في أوقاتها، فإذا تركها فلا قيمة لتوبته، وعليه إثم كبير، ولا يمكن أن يتحمله عنه غيره من الناس، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18].

ثم يقول: لقد رأيت الداخلين إلى حجرة الغفران في الكنيسة عليهم أمارات الحزن والكآبة لثقل الذنوب، بينما رأيت من يخرج منها وقد علت وجهه ابتسامة الفرح؛ لاعتقاده بأن ذنوبه قد غفرت له، أما أنا فحين جربت تلك الغرفة دخلتها حزيناً وخرجت منها حزيناً؛ لأنني كنت أفكر وأتساءل: هذه ذنوبنا يتحملها القس، ولكن من يتحمل ذنوبه هو؟! وهكذا لم أقتنع بالكاثوليكية فتركتها، وبحثت عن دين آخر.

يقول: بعد ذلك تعرفت على طائفة نصرانية أخرى تسمى (شهود ياهوه) وهي مذهب آخر من مذاهب النصرانية، رأيت أحد رجالها، وسألته عن تعاليم مذهبه فقلت له: من تعبدون؟ قال: الله.

قلت: ومن هو المسيح؟ فقال: عيسى هو رسول الله.

فصادف ذلك موافقة لما كنت أؤمن به وأميل إليه، ودخلت كنيستهم فلم أجد فيها صليباً واحداً، فسألته عن سر ذلك فقال: الصليب علامة الكفر، لذلك لا نعلقه في كنائسنا.

فاقتنع بأن يبحث عن المزيد في ملة هؤلاء المسمين (شهود ياهوه).

يقول: لقد أمضيت ثلاثة أشهر كاملة أتلقى تعاليم ذلك المذهب، وفي نهايتها كان لي الحوار التالي مع رئيس الكنيسة، وكان هولندياً: قلت له: يا سيدي! إذا توفيت على هذا المذهب فإلى أين مصيري؟! قال: كالدخان الذي يزول في الهواء.

فقلت متعجباً: ولكني لست سيجارة، بل أنا إنسان ذو عقل وضمير.

ثم سألته: وأين أتجه بعد الممات؟! فقال: توضع في ميدان واسع.

قلت: وأين ذلك الميدان؟! قال: لا أعلم.

قلت: سيدي! إذا كنت عبداً مطيعاً ملتزماً بهذا المذهب فهل أدخل الجنة؟! قال: لا.

قلت: فإلى أين إذاً؟! قال: الذين يدخلون الجنة عددهم مائة وأربعة وأربعون ألف شخص فقط، أما أنت فسوف تدخل الأرض مرة أخرى.

وهنا قاطعته قائلاً: ولكن -يا سيدي- قد وقعت الواقعة، فالدنيا خربت.

يعني أن القيامة قامت والدنيا خربت.

قال: أنت لا تفهم حقيقة القيامة، لو كان لديك كرسي وفوقه حشرات مؤذية هل ستحرق الكرسي لتتخلص من الحشرات؟! قلت: لا.

قال: بل تقتل الحشرات ويبقى الكرسي سليماً، وهكذا تبقى الأرض سليمة بعد تطهيرها من الدنس والخطايا، وعندها ينتقل إليها الناس من ذلك الميدان، فليس هناك ما يسمى بالنار.

وهنا أعملت فكري جيداً، ودرست الأمر وقلبته، حتى اتخذت القرار الأخير لترك النصرانية بجميع مذاهبها رسمياً، وكان ذلك في عام ألف وتسعمائة وسبعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015