يقول: في يوم من الأيام أرسلتني قيادة الكنيسة للقيام بأعمال تبشيرية لمدة ثلاثة أيام ولياليها في منطقة دايدي التي تبعد عن العاصمة الواقعة في شمال جزيرة سومطرة بضع مئات من الكيلومترات، يقول: ولما انتهيت من أعمال التبشير والدعوة، وآويت إلى دار مسئول الكنسية في تلك المنطقة، وكنت في انتظار وصول سيارة تقلني إلى موقع عملي، وإذا برجل يطلع علينا فجأة، لقد كان معلماً للقرآن، وهو ما يسمى في إندونيسيا مطوِّع في الكُتّاب، وهو بهذه الهيئة المتواضعة، لقد كان الرجل ملفتاً للأنظار، كان نحيف الجسم، دقيق العود، يرتدي كوفية بيضاء بالية خَلِقة، ولباساً قد تبدل لونه من كثرة الاستعمال، حتى إن نعله كان مربوطاً بأسلاك ليصد قدمه، اقترب الرجل مني، وبعد أن بدأني بالتحية بادرني بالسؤال التالي، وكان سؤالاً غريباً من نوعه، قال: لقد ذكرت في حديثك أن عيسى المسيح إله، فأين دليلك على إلاهيته؟! فقلت له: سواء أكان هناك دليل أم لا فالأمر لا يهمك، إن شئت فلتؤمن وإن شئت فلتكفر.
وهنا أدار الرجل ظهره لي وانصرف.
يقول: ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد أخذت أفكر في قرارة نفسي وأقول: هيهات هيهات أن يدخل هذا الرجل الجنة؛ لأنها مخصصة فقط لمن يؤمن بإلاهية المسيح فحسب، هكذا كنت أعتقد جازماً آنذاك! ولكن عندما عدت إلى بيتي وجدت أن سؤال الرجل يزلزل فروعي، ويدق بقوة في أسماعي، مما دفعني إلى الرجوع إلى كتب الإنجيل بحثاً عن الجواب الصحيح على سؤاله، ومعلوم أن هناك أربعة أناجيل مختلفة: أحدها: متى، والثاني: مرقس، والثالث: لوقا، والرابع: إنجيل يوحنا، وهذه أسماء من ألف كل إنجيل منها، أي أن الأناجيل الأربعة المشهورة هي من صنع البشر، وهذا غريب جداً! ثم سألت نفسي: هل هناك قرآن بنسخ مختلفة من صنع البشر؟! وجاءني الجواب الذي لا مفر منه: لا يوجد.
فهذه الكتب وبعض الرسائل الأخرى هي فقط مصدر تعليم الديانة المسيحية المعتمدة.
وأخذت أدرس الأناجيل الأربعة، فماذا وجدت؟! هذا إنجيل متى نقرأ فيه ما يلي: إن عيسى المسيح ينتسب إلى إبراهيم وإلى داود إلى آخره.
إذاً: من هو عيسى؟! أليس من بني البشر؟ نعم.
إذاً: فهو إنسان.
وهذا إنجيل لوقا يقول: ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية.
وهذا إنجيل مرقس يقول: هذه سلسلة من نسب عيسى المسيح إلى آخر الكلام البشع الذي يزعمون فيه أنه ابن الله.
وأخيراً: ماذا يقول إنجيل يوحنا عن عيسى المسيح عليه السلام؟! إنه يقول: في البدء كان الكلمة عند الله، وكانت كلمة الله.
ومعنى هذا النص أنه في البدء كان المسيح عند الله، والمسيح هو الله.
فقلت لنفسي: إذاً: هناك خلاف بين هذه الكتب الأربعة حول ذات المسيح عليه السلام، أهو إنسان، أم ابن الله، أم ملك، أم هو الله؟ لقد أشكل علي ذلك، ولم أعثر له على جواب، وهنا أحب أن أسأل إخواني النصارى: هل يوجد في القرآن الكريم تناقض بين آية وأخرى؟! لا، لماذا؟! لأن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، أما هذه الأناجيل فهي من تأليف البشر، إنكم تعرفون -ولاشك- أن عيسى عليه السلام كان طيلة حياته يقوم بأعمال الدعوة إلى الله هنا وهناك، ولنا أن نتساءل: ترى ما هو المبدأ الأساسي الذي كان يدعو إليه المسيح عليه السلام؟ هذا إنجيل مرقس يقول: فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه -يعني المسيح- أجابهم حسناً سأله: أية وصية هي الأولى؟ أي أن هذا الرجل سأل المسيح: ما هي أهم وصية؟ فأجابه اليسوع قائلاً: إن أولى الوصايا هي: (اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، فهذا اعتراف صريح من عيسى عليه السلام.
إذاً: لو كان عيسى قد اعترف أن الله هو الإله الواحد الأحد فمن هو عيسى إذاً؟ ولو كان عيسى هو الله أيضاً فلن تكون هناك وحدانية لله، أليس كذلك؟! ثم واصلت البحث فوجدت في إنجيل يوحنا نصوصاً تشير إلى دعاء المسيح عليه السلام وتضرعه إلى الله سبحانه وتعالى، فقلت لنفسي: لو كان عيسى هو الله فهل يحتاج إلى هذا التضرع والدعاء؟! إذاً: عيسى ليس إلهاً، بل هو مخلوق، استمع معي إلى الدعاء الذي ورد في إنجيل يوحنا، وهذا هو نص الدعاء، يقول المسيح في نهايته: (أيها الرب البار! إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم ليكون فيه الحب الذي أحببتني به).
هذا الدعاء يمثل اعترافاً من عيسى عليه السلام بأن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، وأن هذه الحقيقة ظاهرة مثل الشمس أن المسيح نفسه لم يدع غير بني إسرائيل، حتى منع الحواريين من أن يبلغوا غير بني إسرائيل رسالته، فمن زعم بأن النصرانية دين عالمي تكذبه التوراة، ويكذبه الإنجيل نفسه؛ لأن عيسى نفسه قال: (لم أبعث إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة).
وكما قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل} [آل عمران:49]، فالمسيح ما دعا إلى عالمية دعوته؛ لأنه لا توجد رسالة عالمية إلا الإسلام، فهذه من خصائص رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة.
فموضوع التبشير أصله الخروج عن حقيقة النصرانية؛ لأنها دين لقوم معينين، وهم بنو إسرائيل.
يقول: إن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، فأي قوم هم هؤلاء يا ترى؟! نقرأ جواب ذلك في إنجيل متى حيث يقول: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) إذاً: لو ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها لأمكننا أن نقول: إن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل.
يقول: ثم واصلت البحث.
وانظر إلى كل هذا الحوار بينه وبين نفسه نتيجة سؤال واحد سأله رجل احتقره وازدراه، وقال: هذا لا يمكن أن يدخل الجنة بسبب هيئته ومنظره، ولكونه مسلماً.
لكن لما عاد إلى البيت وتفكر في الكلمة أحس أن الإنسان حينما يدعو الناس إلى الهداية لا يملك شيئاً، فاستحضر أنك أنت لا تملك شيئاً، فالقلب لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، عليك أن تضع البذرة في التربة بكلمة، أو بنصيحة، أو بموقف، أو بمجرد أن تصلي أمام الكافر.
فلا تجهل أبداً في أن تضع البذرة في أماكن النماء، قال تعالى {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64]، الله هو الذي يزرع شجرة الإيمان في القلب، لكن في البداية لابد من أن يكون هناك بذرة توضع في القلب، ثم إذا كانت أرض هذا القلب تربة صالحة وطويلة فإنها تثمر وتنمو وتترعرع إلى أن تنبت فيها شجرة الإيمان.
أما إذا كانت أرضاً غير صالحة فقد قامت حجة الله على هذا الكافر، وقلبه حينئذ كأرض لا تنبت ولا تمسك الماء ولا تنبت فيها هذه البذرة، فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول: ثم واصلت البحث فتذكرت أنني حين أكون في صلاتي أقرأ دائماً العبارات الآتية التالية: الله الأب! الله الابن! الله روح القدس! ثلاثة في شخص واحد، قلت لنفسي: أمر غريب حقاً، فلو سألنا طالباً في الصف الأول الابتدائي: هل واحد مع واحد مع واحد يساوي ثلاثة لقال: نعم.
ثم إذا قلنا له: ولكن هل الثلاثة تساوي الواحد لما وافق على ذلك، إذ إن هناك تناقضاً صريحاً فيما نقول؛ لأن عيسى عليه السلام يقول في الإنجيل: إن الله واحد لا شريك له.
ولذلك فالنصارى دائماً يحاولون أن يلبسوا على الناس، ويتكلمون باعتبار أنهم من أهل الديانات التوحيدية، ويقولون: نحن وسائر الديانات التوحيدية.
فهم يعرفون أن هذه عورة، بل أقبح عورة في ديانتهم تدل على أنهم -في الحقيقة- مدلسون مشركون، ثم يتظاهر أحدهم بأنه موحد، وإذا حاولت أن تناقش أحدهم وتسأله: كيف يتم الجمع بين هذا التناقض فإنه يهرب من هذه الحقيقة دائماً، كما حصل مع هذا الرجل أيضاً، وهذا فيه إشارة إلى أن الديانات الإبراهيمية بريئة من هؤلاء وهؤلاء، وإبراهيم كان حنيفاً مسلماً ولم يك من المشركين، وكذلك المسيح بريء منهم، وكذلك موسى بريء منهم، فلا اليهودية ديانة توحيدية، ولا النصرانية ديانة توحيدية، صحيح أن اليهود يدعون إلى عبادة رب واحد، لكنهم يصفون هذا الإله بأوصاف تجعلهم كافرين به وغير موحدين، ثم أنهم كفروا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وكفروا بعيسى، فهم لذلك -أيضاً- كفار، وكذلك الأمر بالنسبة للنصارى.
يقول: لقد حدث تناقض صريح بين العقيدة التي كانت راسخة في نفسي منذ أن كنت طفلاً صغيراً -وهي: ثلاثة في واحد- وبين ما يعترف به المسيح عيسى بنفسه في كتب الإنجيل الموجودة أن الله واحد أحد لا شريك له، فأيهم هو الحق؟! لم يكن بوسعي أن أقرر آنذاك، والحق يقال بأن الله واحد أحد، فأخذت أبحث في الإنجيل مرة أخرى لعلي أقع على ما أريد، فوجدت فيه النص التالي: (اذكروا الأوليات منذ القديم؛ لأني أنا الله الإله، وليس آخر، وليس مثلي).
ولقد كانت دهشتي عظيمة حين اعتنقت الإسلام فوجدت في سورة الإخلاص قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
نعم، ما دام أن الكلام كلام الله فهو لا يختلف حيثما وجد، فهذا هو التعليم الأول أو البدهية الأولى في ديانة المسيحية السابقة، فعقيدة أن الثلاثة في واحد لم يعد لها وجود في نفسي.