ثم بعد ذلك سألتهم: هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى؟ وكان السلطان آنذاك مولانا أبو العباس أحمد رحمه الله، فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه يوسف، وكان طبيبه ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب، فدخلت عليه واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه.
ثم ركب فرسه وحملني معه إلى دار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي واستأذنه لي، فأذن له، فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري، فقلت له: خمسة وثلاثون عاماً.
ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة الله.
فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: قل لمولانا السلطان: إنه لا يخرج أحد من دينه إلا ويكثر أهله القول فيه، يعني: أهل الدين الذي كان عليه سيطعنون فيه ويشنعون عليه.
يقول: فقلت للترجمان: قل لمولانا السلطان: إنه لا يخرج أحد من دينه إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم وتسألوهم عني، وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى.
فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب عبد الله بن سلام رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم.
فقصة إسلام الترجمان تتشابه مع إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، فكون يهودي يسلم شيء نادر؛ إذ قليل من اليهود الذين أسلموا في عصور كثيرة، فاليهود من أقسى خلق الله قلوباً، والعياذ بالله! فكون يهودي يسلم علامة اصطفاء من الله سبحانه وتعالى، فـ عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه من بني إسرائيل، ومن ولد يوسف بن يعقوب نبي الله عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولما جاء قالوا: جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يختلس منها بعض البلح، فعجل أن يضع التي يختلس لهم فيها.
يعني: حين سمع أن الرسول عليه السلام أقبل إلى المدينة وهو يجمع البلح لأهله في طبق ليأكلوا منه ما شعر بنفسه، وانصرف إلى الرسول عليه السلام فوراً وهو يحمل هذا الطبق من شدة اهتمامه برؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يجد وقتاً لأن يوصل الطبق إلى أهله أو يضعه في مكان معين، لكن انصرف بسرعة وهو يحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله.
قال: فلما خلا نبي الله جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك جئت بحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فأسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت؛ فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر اليهود! ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق، أسلموا.
قالوا: ما نعلمه) أي: هذا الكلام الذي تقوله ما نعلمه (فأعادها عليهم ثلاثاً وهم يجيبونه كذلك، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا! قال: أفرأيتم إن أسلم؟! قالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم! فقال: يا ابن سلام! اخرج عليهم.
فخرج إليهم فقال: يا معشر اليهود! ويلكم! اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقاً، وأنه جاء بالحق.
فقالوا: كذبت! فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم).
فلأجل هذا قال له السلطان: أنت طلبت ما طلب عبد الله بن سلام من النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم.
ثم قال: أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم، وأدخلني في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه، قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا! هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا.
فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم؟! قالوا: نعوذ بالله من ذلك! ما يفعل ذلك أبداً.
فلما سمع ما عند النصارى بعث إلي فحضرت بين يديه وشهدت شهادة الحق بمحضر النصارى، فصلبوا على وجوههم.
وهذا معروف -والعياذ بالله- عند النصارى، فإنهم إذا أرادوا التعوذ من شيء رفعوا أصابعهم مضمومة على جباههم ثم أشاروا بعلامة في الصليب مروراً بالكتف الأيمن فالأيسر فالوسط.
وقد تتعدى هذه الإشارة من التعوذ إلى التبرك؛ حيث إن من يسمى (البابا) يطلب ذلك، ويطنون أنه بذلك يلقي عليهم البركات بإشارة التصليب والعياذ بالله! فالمهم أنهم لما سمعوا ذلك صلبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج؛ فإن القسيس عندنا لا يتزوج.
وخرجوا مكروبين محزونين.
وتحريم الزواج هو في الكنيسة الكاثوليكية؛ لأن الكاثوليكية حرمت على القسس والرهبان والراهبات الزواج، وهذا أدى إلى الفساد الشديد في أوساط هؤلاء القوم، حتى إنهم كانوا يأتون الفواحش ويقولون: هذا نوع من المساكنة الروحية.
وكان هذا أحد أسباب قيام مرتن لوثر بثورته على الكنيسة في القرن السادس عشر، وكان ضمن آرائه فيما يسمى بالإصلاح الكنسي أن جزءاً من فساد الدين يرجع إلى عدم الزواج، ورأى أن المنع منه لم يكن في النصرانية في عصورها الأولى، فقرر حقهم في الزواج، وتزوج هو فعلاً من راهبة مع أنه من رجال الدين.
المهم أنهم قالوا: ما حمله على أن يدخل في الإسلام إلا أنه يريد أن يتزوج، والقسس عندنا لا يتزوجون.
وخرجوا مكروبين محزونين.
قال: فرتب لي السلطان -رحمه الله- ربع دينار في كل يوم في دار مختص، وزوجني ابنة الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها أعطاني مائة دينار ذهباً، وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها وولد لي منها ولد سميته محمداً على وجه التبرك باسم نبينا صلى الله عليه وسلم.