من خصائص طالب العلم العالي الهمة الغيرة على الوقت، فإنه يغار على الوقت، ويمكن أن يضحي بالمال لكن لا يضحي بوقته، ولا يجلس إلا إلى من يستفيد منه، أما جلسات الأنس والسمر والمزاح واللعب واللهو فلا يعرفها طالب العلم الكبير الهمة.
فأبرز خصائص طالب العلم الجاد في طلبه أن يغار على وقته من أن يضيع في غير ما يقربه إلى الله ويحصل فيه العلم، وعنده بجانب الغيرة على الوقت عزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، أي: تمر الأيام ومع ذلك عزمه لا تنال منه الأيام ضعفاً أو فتوراً إنما يظل كالصارم القاطع الصقيل.
وعنده حرص لا يشفي غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طائحة، فطالب العلم شره ونهم، وشهيته منتبهة جداً وحريصة على أن يغترف من العلم، يشرب من بحور العلم ولا يروى؛ لأنه يشتاق إلى المزيد، فلا يقنع بحد محدود، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك، ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة، كيف لا وقد شغلت نفسه بالحق فأشغلها عن الباطل؟! فأعظم ما يعصم الإنسان من آفات اللسان واللغو والباطل أن يشتغل بالأمور الجادة؛ لأن الإنسان لا يقع في الغيبة والنميمة والجدل والمراء والرياء وغير ذلك إلا من الفراغ؛ فإن هذه أعراض مرض الفراغ والبطالة، أما إذا بادر بشغل نفسه بالحق فإنها بذلك تنشغل عن الباطل.
وقد كان حال سلف الأمة في طلب العلم ونشره والتصنيف فيه حالاً عجيباً، استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم، فحصلوا ما يدهش العقول ويبهر الألباب ويستنهض الهمم، فهيا نطالع أحوالهم لنقتدي بهديهم ونسير على سننهم.
يقول الشاعر: وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد ويقول الآخر في نفس هذا المعنى -وهو التشوق إلى مطالعة أحوال وسير السلف الصالح حتى تستنهض الهمم الراقدة-: كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي