إن هذا الكلام لا نقوله للتسلية، وإنما نقوله لنطبقه، وأخص بذلك الإخوة المدرسين، فلا شك في أن مسئوليتهم عظيمة وجسيمة في هذا الباب، فمهم جداً التفتيش عن هؤلاء الناس وإعانتهم.
والنابغون هم ندرة، وكبيرو الهمة ليسوا هم القاعدة في الناس، لكن إذا سلطنا الضوء على واحد فقط فممكن أن هذا الواحد يكون سبباً في إصلاح الأمة بسائرها، وذلك إذا أُحسن توجيهه وتنميته وتربيته نحو الهدف الأسمى.
ومن أشهر من كان يعنى بالتفتيش عن النابغين ويستنقذهم من ظروفهم القاسية ويأخذ بأيديهم إلى طلب العلم الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، فقد حرص الإمام أبو حنيفة عندما تولى حلقة الدرس بعد شيخه حماد على رعاية تلاميذه النابغين، فقد كان يواسيهم من ماله الخاص، ويعينهم على نوائب الدهر، حتى إنه كان يزوج من تلاميذه من كان في حاجة إلى الزواج وليست عنده مئونته، ويرسل لكل تلميذ حاجته.
قال شريك أحد تلامذته: كان يغني من يعلمه أي: كان ينفق على من يعلمه، وعلى عياله، فإذا تعلم قال له: لقد وصلت إلى الغنى الأكبر بمعرفة الحلال من الحرام.
أي: الآن صرت أغنى الناس، وعندك ثروة لا تضاهى ولا تقدر بثمن، وهي العلم والفقه الذي تميز به بين الحلال والحرام.
وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى ينظر إلى نفوس تلاميذه، ويتعهدها بالرعاية والنصيحة، فإذا وجد من أحدهم إحساساً بالعلم يمازجه الغرور أزال عنه درن الغرور ببعض الاختبارات التي تثبت له أنه ما زال في حاجة إلى مزيد من العلم.
وذكر الكردري في مناقبه بسنده إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى قال: قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة الإمام الجليل المشهور: كنت أطلب الحديث وأنا مقل المال، فجاء إلي أبي وأنا عند الإمام -يعني: عند الإمام أبي حنيفة - فقال لي: يا بني! لا تمدن رجلك معه؛ فإن خبزه مشوي وأنت محتاج.
فالإمام أبو حنيفة كان تاجراً، فوالد أبي يوسف رحمه الله قال: يا بني! نحن ليست حالنا كحال هذا الإمام، فلا تمدن رجلك معه، فنحن نحتاج إلى أكل العيش وإلى الكسب، أما هو فإن خبزه مشوي، وأما نحن فإننا محتاجون.
قال: فقعدت عن كثير من الطلب.
أي: كانت كلمة أبيه سبباً في أنه قعد عن كثير من طلب العلم.
قال: واخترت طاعة والدي، فسأل عني الإمام وتفقدني، قال حين رآني: ما خلفك عنا؟ قلت: طلب المعاش.
فلما رجع الناس وأردت الانصراف دفع إلي صرة فيها مائة درهم، فقال: أنفق هذا، فإذا تم أعلمني، والزم الحلقة.
فلما مضت مدة دفع إلي مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام - يعني: بدون أن يخبره - كأنه كان يخبر بنفادها، حتى بلغت حاجتي من العلم، أحسن الله مكافأته، وغفر له.
وكان أبوه يقول له: لنا بنات وليس لنا ابن غيرك، فاشتغل بهن.
فلما بلغ الخبر الإمام أجرى عليه رزقاً، وقال: الزم الفقه؛ فإني ما رأيت فقيهاً معسراً قط.
وربما لمح شخصاً عالي الهمة تلوح من محياه أمارات النبوغ فضن بموهبته أن تنفق في طلب الدنيا، وشجعه على طلب العلم.
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: مررت يوماً على الشعبي وهو جالس، فدعاني وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: اختلف إلى فلان.
قال: لم أعن إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء.
فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم.
فقال الشعبي لـ أبي حنيفة: لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة.
قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف - يعني: إلى السوق - وأخذت في العلم، فنفعني الله تعالى بقوله.
فنرجو أن يكون في هذه المواقف التي نحكيها تجسيد لأحد المعاني التي نظن أنها تندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه).
فقد تكون كلمة يسيرة خرجت من إنسان بصدق مع وجازتها لكنها كانت عميقة الأثر؛ إذ إنها غيرت حياة واحد من هؤلاء كبيري الهمة، ومن ثم تركت أثراً عظيماً جداً في إصلاح الأمة المحمدية، فلا شك في أن النصيحة لأمثال هؤلاء إذا صادفت محلاً قابلاً -بإذن الله- تحدث هذا التغيير، وتكون نقطة تحول، فهذا الشخص الذي نصح هذه النصيحة لا شك في أنه يكون ساعياً في الخير، وأنه داخل في قوله عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله)، ونرجو أن يدخل في قوله: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت) أي: لا يظن أن هذه الكلمة كبيرة إلى هذا الحد، وأن ثوابها جزيل إلى هذا الحد، ولكن: (يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن مكي بن إبراهيم -وهو أحد شيوخ البخاري - قال: كنت أتجر، فقدمت على أبي حنيفة قدماً، فقال لي: يا مكي! أراك تتجر، فالتجارة إذا كانت بغير علم دخل فيها فساد كثير، فلمَ لا تتعلم العلم؟! ولِمَ لا تكتب؟! فانظر إليه حين وجد نابغة يوجهه إلى طلب العلم الشرعي؛ فمع أنه منشغل بالدنيا لم يقل له: إن المسلمين محتاجون لرأس المال وللمشاريع الاقتصادية.
ونحن لا نحقر هذا، لكن الملاحظ الآن أن كل الناس يتجهون إلى العلوم الدنيوية، ويندر من يرحل من أجل الدين أو يقول: ولدي هذا سأتعهده حتى يخرج إماماً للمسلمين، وحتى يؤدى به فرض الكفاية من تعليم الناس والوصول إلى مقام الاجتهاد.
وإنما نجد أغلب الناس أنهم يدفعون أبناءهم دفعاً للانهماك والفناء في طلب علوم الدنيا، ولذلك فالأمل كبير في المسلمين أن يفطنوا لهذه الحقيقة، وأن يحققوا ولاءهم للإسلام في تجريد أبنائهم من أجل نصرة الإسلام، لعل الجيل القادم يكون أسعد حظاً منا، وينجز ما نقصر نحن في عمله.
يقول الإمام مكي بن إبراهيم: فلم يزل بي -يعني: إلحاحاً وإقناعاً ومحاروة- حتى نبغت في العلم وكتابته وتعلمه، فرزقني الله منه شيئاً كثيراً، فلا أزال أدعو لـ أبي حنيفة في دبر كل صلاة وكلما ذكرته؛ لأن الله ببركته فتح لي باب العلم.
وربما كانت لتجربة الإمام أبي حنيفة مع شيخه الإمام حماد أثر عظيم في مسلكه هذا، فقد كان أبو حنيفة بمسلكه مع هؤلاء النوابغ يتمثل بتربية إمامه حماد رحمه الله تعالى له، فقد اكتشف حماد نبوغ أبي حنيفة وعلو همته، فخصه برعايته وقربه من مجلسه، مؤملاً أن يكون حسنة من حسناته يهديها إلى الأمة، فقد انخرط أبو حنيفة النعمان في التعليم على يد شيخه حماد بالمسجد الجامع بالكوفة، وعندما لمس فيه النجابة وسرعة الحفظ وسلامة التفكير أجلسه بإزائه، واحترم رأيه، وشجعه على الاجتهاد والاستقلال بالرأي، ولم يتبرم من كثرة أسئلته واستفساراته؛ لما فيها من عمق ودقة.
ومما يروى أن أبا حنيفة انصرف من مجلس حماد بعد أن سأله عدة أسئلة، وألح في الجدل حتى احمر وجه شيخه حماد من النقاش ومن الأسئلة، وبعد أن خرج أبو حنيفة قال حماد لجاره واصفاً صلاح تلميذه: هذا على ما ترى منه يقوم الليل كله ويحييه.
فهذا تلميذ يكثر الأسئلة إلى درجة أنه يحرج الشيخ، ويلح في الأسئلة، ويجادله حتى يحمر وجه الشيخ، ومع ذلك فمن إنصاف شيخه أنه قال: هذا على ما ترى منه -يعني انهماكه في المناقشات وفي الرأي وفي الأخذ والمجادلة إلى هذا الحد- يقوم الليل كله ويحييه.
واستمر أبو حنيفة ملازماً أستاذه ثماني عشرة سنة، ولم يستقل بالدرس والتمحيص إلا بعد وفاة شيخه حماد، وربما كانت نصيحة عابرة من عامل مخلص بداية نقطة تحول في حياة أحد النابغين إلى انتفاع عموم الأمة به.
وأحد العلماء لقي نابغة كبير الهمة قد ترك الدعوة والتعليم والتعلم في بلده، وجاور في الحرم المكي الشريف، وخلى مكانه في بلاده الذي كان يشغله في الدعوة والتعليم، فأرشده إلى تصحيح مساره وقال له: ليس هذا مكانك.