روى البخاري في صحيحه أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن، فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس وهو صغير السن، فانظر إلى ابن عباس الذي ربي على الثقة بالنفس، فإنه لما وجد الكبار كلهم لا يستطيعون أن يتكلموا قال: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! انظر إلى التلطف والأدب والذكاء الشديد في العبارة، لم يقل: أنا أعلم ما لا تعلمون، فقال عمر: يا ابن أخي! قل ولا تحقر نفسك.
فأجابه ابن عباس بما كان يعلمه، وهذه هي التربية الصحيحة: أن يربيه على الاعتزاز بالذات، وعلى قوة الشخصية، والثقة بالنفس.
وعلى هذه الثقة سار ابن عباس منذ طفولته، غير مبالٍ بتثبيط من هو أقصر منه همة، انظر إلى ابن عباس، وانظر إلى خطورة الصحبة، فإن الإنسان إذا صاحب من هو أقل منه همة لا بد أن يتضرر به ويحطمه إلا أن يفارقه، يقول ابن عباس: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار -ومن أدبه أنه لم يسمه-: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، يعني: ربما يموتون، وربما يرتحلون ويخرجون إلى الجهاد، فتعال نتزاحم على الصحابة، ونتردد على الصحابة لنأخذ من علمهم، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟! يعني: هل الأمة تنتظرك يا ابن عباس حتى تتعلم العلم، والصحابة موجودون.
قال: فتركته، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل - يعني: نائم وقت القيلولة قبل صلاة الظهر- فأتوسد ردائي على بابه.
انظر إلى الأدب مع شيخه، عرف أن هذا وقت قيلولة، فلا يزعجه ويطرق الباب، بل يفرش الرداء وينام على باب البيت إلى أن يخرج إلى الصلاة، قال: فأتوسد ردائي على بابه، وتسف الريح علي من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فيسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فكان يقول: هذا الفتى كان أعقل مني.
يقول الشاعر: فحيهّلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن العزم يكفيك حاملا كان ابن شهاب رحمه الله تعالى يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة سنكم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم.
وكان هارون الرشيد رحمه الله يغدق العطايا والصلات على طلبة العلم والعلماء، حتى قال ابن المبارك: فما رأيت عالماً ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات في أيامٍ بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة.
بلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، ومن هؤلاء الأمراء المعز بن باديس أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، فقد كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته، وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعول على آرائه، ومنحه أعظم الرواتب.
وكذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الذي أنشأ بيت الطلبة، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه أن بعض حاشيته أنكروا عليه أنه يعظم هؤلاء الطلبة النابغين، وينشغل بهم عنهم، خاطب هؤلاء الحاشية فقال لهم: يا معشر الموحدين! أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجؤهم، إلي فزعهم، وإلي ينسبون.
وبلغت عناية المنصور بالطبيب أبي بكر بن زهر حداً عجيباً، فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مدداً طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعراً في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر أرسل المهندسين إلى أشبيليا، وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في مراكش، ففعلوا ما أمرهم، ونقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآه ابن زهر اندهش، وحصل عنده من السرور ما لا مزيد عليه، فقد صمم له بيتاً بنفس تصميم البيت والحارة التي يسكن فيها، وأحضر له أولاده وفاجأه بهذه الكرامة.
وفي القرن السادس عشر الميلادي قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع القرى والأمصار، وتوفير الرعاية لهم التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضارياً وعسكرياً حتى صارت تهدد بغزو أوروبا.