أحمد بن حنبل: إمام السنة، وبطل المحنة، وعلم الزهاد، وصاحب الإسناد، أرادوا صرفه عن السنة فما انصرف؛ لأن أحمد ممنوع من الصرف
فأثبت في مستنقع الهول رجله وقال لها من دون أخمصك الحشرُ
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضرُ
رد الأغلاط فضربوه بالسياط، وأرسل على الجهمية شهباً، وأدخلوه الكير فخرج ذهباً، وأرادوا إسكاته فصاح الجمهور، وحبسوه فطارت دعوته، وقيدوه فانطلق علمه، وحاصروه فانتشرت مناقبه.
أحمد بن حنبل، وأحمد بن أبي دؤاد هذا في وادٍ وذاك في واد، وسوف يتجلى الأمر يوم التناد، أحمدنا سني المذهب، صافي المطلب، رفيع المنكب، سلفيٌ نجب، وأحمدهم نجم بدعة، وصاحب وقعة، بعيد رجعة.
الإمامة عند أحمد قولٌ وعمل، سنة وجماعة، مغالبةٌ للهوى، كسرٌ للنفس، اقتداءٌ بمن سلف، احترامٌ للنص، اضطراح للفضول، محافظةٌ على الفرائض، تزودٌ بالنوافل، ترقبٌ للأجل، تقصير للأمل.
أحمد بن حنبل، عملٌ في هدوء، إجهادٌ في سكون، لموعٌ في تواضع، أنفة في سكينة، إباء في رقة، جلد شفاف يكسر عصا المعتصم، قلبٌ لا يتوكل على المتوكل، همةٌ لا تثق بـ الواثق.
فمٌ عفيفٌ يقول لا بقوة، نفس راضية ترفض بيع الضمير، بلوه بأنفسهم في بيته فأرق عيونهم في بيوتهم، اقتحموا منزله فهز منزلتهم، طاف به الحجاب فما أجاب، هددوه فما أجاب قط، ولسان الحال يقول: أوللبط تهددين بالشط.
أحمد بن حنبل ذوبوه بالنار فجمد، خوفوه بالسيف فصمد، يكفيه أنه اضطهد وجلد، أرادت أن تغيظه الدنيا فدانت له بالغلبة، أسكتته الحكمة فأنطقه العلم، بَعُدَ من الدنيا فدنا من الآخرة.
الحق حصانه، الحجة سلطانه، الصدق برهانه، السنة عنوانه، أفرح ما يكون إذا انتهى خبزه، أغيظ ما يكون إذا كثر كنزه، الدنيا عنده ثوبٌ وعمامة وحذاءٌ ورغيف، والآخرة سجدةٌ ودمعةٌ وفكرةٌ وعبرة، هدده المعتصم فاعتصم بالله، أوثقه الواثق وقال: وافق، فقال: معاذ الله، ناداه المتوكل إلى المآكل فقال: كلا.
سمن فهمه فهزل جسمه، عظم ثوابه فبليت ثيابه، رث منزله فحسنت منزلته.
العلم عنده نص، والمقصد الله، والأمنية رضاه، والقدوة محمد، والزاد زهد، دعها فإنها مأمورة، أبصر محاسن الزهد في دفتر الحسن، وقرأ سعادة الأولياء في لوح سعيد، ولقط ذرات التقشف من صحن أبي ذر، وأيس من الناس كـ أويس، وثار على الجهمية كما فعل الثوري، وعبس في وجوه المبتدعة كمثل ابن عباس.
أحمد: من المحبرة إلى المقبرة، من المحنة إلى المنحة، من التعذيب إلى التهذيب.
أحمد: الصباح ورد، والضحى نافلة، والظهر تفكر، والعصر استغفار، والمغرب إنابة، والعشاء محاسبة، والليل بكاء، والفجر ابتهال.
حمل على رأسه الحطب فصعد منبر المسجد وخطب، حصد الزرع بالأجرة في اليمن فزرع سنابل القبول في قلوب أهل السنن، سال عرق جهده في العراق، وسمع جميل ذكره في الشام، وقرئ حديثه في القيروان، صنع تابوت الهمة في صنعاء عند عبد الرزاق، نهل الأثر من ذات المعين، فهو أوثق رجلٍ عند يحيى بن معين.
حماية ثغر الشريعة رباطه، دعاء السحر سياطه، جبهته في الليل بساطه، الصلاح حسامه، التبكير سهامه، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
ناضل أحمد بقلم النقل في وجه شبهات العقل للمحافظة على سمة الإسلام من سموم الأقلام، كسرات الخبز أغنته عن كنوز كسرى.
أحمد: قلة لفظ، وقوة حفظ، وغزارة علم، وجودة فهم، وصحة عبادة، وجلالة زهادة، الوحي عنده هو المعيار، والسنة لديه هي المسار، وشيوخ البدعة هم مسجد الضرار، بناؤهم على شفا جرفٍ هار.
إن صحح حديثاً لم تصبه علة، وإن أعلّ رجلاً وافقه حفاظ الملة، انصدع به جدار الضلال، وأصاب الصداع الشيوخ الضلال، أزعجه ذكر الموت فما ضحك، وأذهله قرب الفراق فما فرح، إذا رأى الأولياء انبسط، وإذا شاهد المبتدعة انقبض، عبس للغنى وتبسم للفقر، إن حضر غاب الجهل وأصحابه، وإن غاب حضر الزيغ وأربابه، كنزه وقته، هيبته صمته، جدَّ في الآخرة فهزل بدنه، استراح من الدنيا فقوي قلبه، أجمل منظرٍ لديه المحابر السود، والعمائم البيض، عاد المجد للملة بـ أحمد، فعاد النصر لحملتها والعَوَد أحمد، سكت في الرخاء فتكلم الجبناء، تكلم في الشدة فوجل منه العظماء، سر إصراره الرفض، وعظمة رفضه الإصرار، لغز إنجازه الإيجاز، وحل حيلته أكل الحلال، أصر على السنة ورفض المساومة، وأجاد المهادنة، وانتصر في المقاومة، ورفض الرشوة؛ فاستحق الوسام.
احتر بالغيرة فتمدد علمه، برد بالصبر فانكمش نهمه، هجر الشهرة فطار اسمه، خفق قلبه للآخرة فسطع نجمه، بشر بشراً بالشر، وتجهم في وجه جهم، وهز بالآيات ابن الزيات.
جلدوه فدعا لهم، أعطوه فاستعاذ منهم، حبسوه فسامحهم، ضحكوا له فبكى، سخروا منه فضحك، اقتربوا فابتعد، قاموا فقعد، دنا بالحكمة فشردوا بالبدعة، حبسوه حياً وحملوه على الأكتاف ميتاً:
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أُحثَّا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني في الحق أركبت نفسا
قال: نعم ثلاثاً، وقال: لا ثلاثاً، قالوا له: الزم بيتك، قال: نعم قالوا: واعف عمن ظلمك قال: نعم.
قالوا: وسامح من ضربك قال: نعم.
قالوا له: وافقهم فيما قالوا، قال: لا.
قالوا: فاخرج عليهم قال: لا.
قالوا: فاقبل أعطياتهم، قال: لا.
هو بدر التمام، وعلم الأعلام، والرجل الإمام، والسلام.