وبعد هذا فعليك أن تتعرف على مواهبك التي منحك الله، فتوظفها في بابها، سواء علماً أو عملاً أو مهنة، فإن لكلٍ مذهباً ومشرباً صنواناً وغير صنوان {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] والناس أجناس، فحقٌ على العاقل أن يمهر فيما يجيد، وكلٌ ميسرٌ لما خلق له، ومن يلاحظ حياة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن كل واحدٍ منهم أجاد في بابه.
فـ أبو بكر ضرب في كل غنيمةٍ بسهم، ولكنه برز في الخلافة والقيادة مع العدل والزهد والإخلاص والصدق.
وعمر قوي في ذات الله، شديد على أعدائه، عادلٌ في حكمه.
وعثمان رحيمٌ شفوقٌ ذو تهجدٍ وصدقات وبرٍ وحياءٍ ورقة.
وعلي شجاعٌ صارمٌ خطيبٌ نجيبٌ فقيه.
وأبي سيد القراء، ومعاذ إمام العلماء، وخالد رمز الأبطال، وابن عباس ترجمان القرآن، وحسان مَقدم الشعراء، وزيد بن ثابت كبير علماء الفرائض، وأبو هريرة شيخ الرواة، وهكذا.
فاكتسب معارفك بنفسك، بمهارتك، بتجاربك، بمزاولاتك للأعمال، بمباشرتك للحياة.
إن الكتب تلقن الحكمة لكنها لا تخرج الحكماء، وإن الذين امتازوا في العلوم والفنون لم يتعلموا في المدارس فحسب، بل تعلموا في مدرسة الحياة ومصنع الرجال.
إن كتاباً في فن السباحة يعطي مفاتيح في هذا الباب، لكنه لا ينجِّي الجاهل بالسباحة من الغرق، إن أفضل طريقةٍ لمن أراد السباحة أن يهبط إلى النهر ليتعلم فيه مباشرة، ومثل الخطيب البارع فإنه لم يمهر ويتميز لأنه قرأ مجلدات في فن الخطابة، بل لأنه صعد المنابر، وأخطأ وأصاب، وفشل ونجح، وجرب وتدرب، حتى بلغ الغاية في هذه الموهبة.
فإذا أردت البراعة في أي علمٍ، أو عملٍ، أو موهبة، فاغمس نفسك فيه، وانصهر في معاناته، واحترق بحبه والشغف به إلى درجة العشق: وللناس فيما يعشقون مذاهبُ، قال الشاعر:
إنما رجل الدنيا وواحدها من لا يعول في الدنيا على رجلِ
فلا تظن أن النجاح سوف يقدم لك هبة، على طبقٍ من ذهب، فإن أقبح نصرٍ هو ما كان عن هبة.
وأقبح النصر نصر الأغبياء بلا فهمٍ سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا
لكن النجاح الغالي هو ما حصل بجهدٍ وعرقٍ ومشقةٍ ودموعٍ ودماءٍ وسهرٍ وتعبٍ ونصبٍ وتضحيةٍ وفداء، كما قال أبو الطيب:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتالُ
إن الناس لا يرحمون الفاشل، وإن الساقط مغضوبٌ عليه، وكما قيل: إذا وقع الجمل كثرت سكاكينه، لأن الناس لا يحترمون إلا كل ناجح متفوق، فتراهم ينظرون إليك خاشعةً أبصارهم إذا كنت عالماً أو نابهاً أو غنياً أو مرموقاً أو مصلحاً، أما البليد الغبي الفاشل الساقط فلا تلمحه العيون؛ لأنها لا تراه أصلاً:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
فعليك بطريق التعب والمشقة حتى تصل {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] وإياك ثم إياك والكسل -والتواني- والتسويف والأماني فإنها رءوس أموال المفاليس، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، إن الله يحب المجاهدين، ويكره العجزة الفاشلين.
وإن ألذ خبزٍ هو ما حصل بعد عرق الجبين، وإن أهنأ نومٍ ما كان بعد تعب، وإن أحسن شبع ما سبقه جوع، وإن الورد لا يفوح حتى يعرك، وإن العود لا يزكو حتى يحترق:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف نشر عرف العودِ
إن الماء الراكد يأسن، ويتغير طعمه، لكن إذا جرى وسرى طاب وعذب، وإن الكلب الجاهل حرامٌ صيده، لكن صيد الكلب المدرب حلال؛ لأنه أتى بعد جهدٍ ودربةٍ ومعرفة، يقول الشاعر:
وميز الله حتى في البهائم ما منها يُعَلَّمُ عن باغٍ ومغتشمِ
فالبدار البدار قبل تقضي الأعمار، فلا راحة مع الليل والنهار.
ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صبيٍ قد دفنتا
وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه ومن والاه.