وكذلك في هذا الحديث: الحرص على أخذ العلم من صاحبه الأصلي: ولذلك ذهب إلى أبي محذورة وقال له: (علمني الآذان قبل أن أُسْأَل عن تأذينك) إني خارج إلى الشام وأخشى أن أُسْأَل عن تأذينك، إذا علموا أني صاحبك، وأني كنت عندك سيسألونني عن أذانك، فأخبرني عن الأذان وعلمني إياه، حتى إذا سألوني أخبرتهم.
ففيه الاستعداد بالجواب قبل السؤال، وكذلك الحرص على القصة من صاحب القصة، والحرص على العلم من صاحب العلم، وأعلم واحد بالأذان هو من ألقي عليه الأذان.
وكذلك فيه: أن رفقه السوء تساعد على الوقوع في الباطل: ولذلك يقول: (فسمعنا صوت المؤذن ونحن مُتَنَكِّبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به) هم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، رفقة السوء هؤلاء الذين كانوا مع أبي محذورة كانوا كفرة، وهم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، وهذا يبين خطورة رفقة السوء، وأن الإنسان ربما لو ترك لوحده لما استهزأ بالدين، لكن إذا كان معه من الفاسدين من يحوطه، فإنهم يجرئ بعضهم بعضاً على المنكر، وهذه من خطورة رفقة السوء، فبسببهم حصل ما حصل.
ثم أيضاً من فوائد القصة: أن الشيء السيئ قد ينقلب بأمر الله في مصلحة صاحبه: فـ أبو محذورة رفع صوته مستهزئاً، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم الصوت واستدعاهم، فشاء الله أن يكون رفع الصوت بالاستهزاء سبباً في هداية الرجل، فسبحان من جعل هذا السوء ينقلب على صاحبه خيراً.
وفي هذا الحديث طريقة من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم: أن يقول: قل كذا قل كذا، وذاك يقول، يلقيه عليه إلقاءً، ولذلك فالإنسان لا ينسى أن يلقن تلقيناً مباشرة، فإنه من طرق التعليم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، ويُملي عليه الكلام إملاءً.
وفيه كذلك: أن مشاعر الإنسان يمكن أن تتغير في لحظة: الكره ينقلب إلى محبة، والمحبة تنقلب إلى كره، العداوة تنقلب إلى صداقة، والصداقة تنقلب إلى عداوة، الحزن ينقلب إلى سرور، والسرور ربما ينقلب إلى حزن، وذلك في لحظة.
وفاطمة: (أسَرَّ إليها النبي كلمات، فَبَكَت، ثم أسر إليها كلمات، فضحكت وربَعت) أولاً: أخبرها بدنو أجله، فبَكَت، فقال لها: إنها سيدة نساء العالمين، فضَحِكَت.
فالإنسان بحسب ما يناله ويحيط به من الظروف تتقلب مشاعره، والقلب يتقلب، وما سُمِّي القلب قلباً إلا أنه يتقلب.
فهذه البغضاء يقول أبو محذورة: (وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفيه: أن حسن معاملة المدعو الكافر مِن قِبَل الداعية المسلم هو الذي يغير صورة الداعية وسمعته، والشبهات التي كانت حول الداعية، أو الشكوك، أو العداوات في نفس الشخص الآخر، تتغير بفعل المعاملة الحسنة من الداعية، أعطاه المال، ولان له في الكلام.
ثم إننا نلاحظ أن من وسائل الدعوة: أن تجعل الشخص يتلبس بالطاعة:- فلو أتيتَ بمُغنٍ كان معك فحضر وقت الصلاة، فقلت له: يا أخي! لماذا لا تؤذن لنا؟! هل من الممكن أن تؤذن لنا؟ فيمكن أن يكون طلبك من المغني أن يؤذن سبباًَ لهدايته إلى طريق الحق؛ لأن استخدام الطاقة في الشر إذا عُكِس، وطُلِب منه أن يؤديها في الخير يحس بلذة الخير، فتتغير قناعاته، ويتغير مسلكه وطريقه.
ولذلك ربما شعر أبو محذورة -لما أذن- بطعم الأذان، وذاق شيئاً من طعم الإيمان، وأحس بجمال الأذان.
فالشخص حين يقوم بالعمل، ويقوم بالطاعة، وعندما توعز إليه أن يقوم بها يكون إيعازك له طريقةً لقلب حاله وهدايته، وهذه حكمة بالغة من النبي عليه الصلاة والسلام، جاءه شخص مستهزئ بالدين فقال له: (قم فأذن للصلاة).
ثم لاحظ: أن النبي عليه الصلاة والسلام جرد الشخص من أعوانه الفجرة الكفرة؛ قال: (فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليَّ، وصَدَقُوا، فأرسل كلهم وحبسني) فجرد الشخص عن المحيط السيئ الذي هو فيه، وهنا يمكن التأثير عليه، بخلاف ما لو كان مع هذه الرفقة السيئة، فاستفراد الداعية بالمدعو يجعل التأثير ممكناً أكثر.