فوائد حول الأذان والمؤذنين وانتقائهم وأجرة الأذان

وكذلك يؤخذ من الحديث: أن الإنسان قد يُوْلَع بالشيء حتى يصبح له عادة يطلبه ويحرص عليه: فهذا أبو محذورة رضي الله عنه صار مؤذناًَ.

وفي هذا الحديث: انتقاء صاحب الصوت الندي لأجل الأذان: لأن صاحب الصوت الندي يُسمع له، وينجذب الناس لأذانه، وبالتالي للصلاة في المسجد أكثر من صاحب الصوت غير الندي، ولأن المؤذن وظيفته خطيرة؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة، بل ربما بعض الناس لا يأتي إلى المسجد إلا من أذان المؤذن، فإذا كان المؤذن نَدِيَّاً تجد أن النفوس تنشرح وتُقْبِل على المسجد، والمؤذن داعٍ يدعو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فيقول لهم: أقبلوا تعالوا إلى الصلاة، يدعوهم إلى الصلاة.

وبما أنه لا يمكن أن يقوم العبد إلى شيء من الطاعات إلا بقَدَر الله وتوفيقه وإعانته، فإنا نقول إذا سمعنا حيَّ على الصلاة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لولا أن أعطانا الله قوة وأعطانا حولاً نَقْدِرُ به على الإتيان إلى الصلاة؛ لما أمكن أن نأتي ولا أن نستطيع، ولذلك لما يقول: الله أكبر، الله أكبر، نقول: الله أكبر، الله أكبر، ينطق بالشهادتين، فننطق بالشهادتين، عندما يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، تريد أن تقول عبارة معناها: استعنا بالله، وهذه العبارة التي معناها استعنا بالله هي: لا حول ولا قوة إلا بالله، ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) لا طاقة لنا ولا قدرة، ولا إمكان لنا أن نأتي إلى المسجد أو نقوم إلى الصلاة إلا إذا وفقنا الله لذلك، وأعاننا عليه ويسره لنا، وأعطانا الحول والقوة؛ لأنه هو صاحب الحول والقوة، ومنه نستمد الحول والقوة سبحانه وتعالى.

وأقول: إن وظيفة المؤذن في المجتمع وظيفة خطيرة، ولذلك لابد أن ينتقى من الناس المخلصون أصحاب الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المؤذنين (أمناء الناس، على أذانهم يفطرون، وعلى أذانهم يمسكون) فهم مؤتَمَنُون، فينبغي أن يكونوا من أصحاب الأمانة، ولذلك أوصى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً أن يتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً؛ لأن المؤذن المحتسب يكون إخلاصه أشد ولا شك، ولذلك يستجيب له الناس أكثر من المؤذن الذي يأخذ المال أو يؤذن لأجل المال.

ولعل من أسباب عدم التوفيق لدى بعض الناس في الصلاة: أن بعض المؤذنين لا يؤذنون إلا من أجل المال، وتجد بعض الناس إذا أراد أن يبحث عن وظيفة ويتزوج أسرع شيء يخطر في باله الأذان، مع أن المؤذن ينبغي أن يكون ذا صفات متفوقة؛ حتى يحصل له القبول عند الناس، وحتى يكون لصوته القبول عند الناس، ولذلك إذا احتسب المؤذن الأجر في الأذان وما أخذ عليه أجرة؛ فإنه من أطول الناس أعناقاً يوم القيامة وفي الحديث: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

كما أن الجزاء من جنس العمل، فبأذانهم صاروا أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، وكذلك إذا أذن ردَّد معه وشهد له يوم القيامة ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر، وجن وإنسٍ.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في مناقب بلال أنه سمع دف نعليه في الجنة، أمامه عليه الصلاة والسلام.

وحكم أخذ الأجرة على الأذان: أن من أذن لأجل المال، وجعل الأذان وسيلة للمال، فهو آثم وأذانه غير مقبول؛ لأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، ودفع العمل الأخروي الديني لأجل أن ينال الأجرة الدنيوية.

وبناء على ذلك من جعل الأذان وسيلة للتكسب فليس له عند الله من خلاق.

لكن إذا لم يوجد مؤذن محتسب، ولا يوجد من الناس من يتفرغ للأذان، فعند ذلك يعطى المؤذنون من بيت المال ما يفرغهم للأذان؛ لأن الناس لا بد لهم من مؤذنين، فإذا لم يوجد مؤذنون محتسبون، فلا بد من تفريغ بعض الناس للأذان، ولكن على هذا الشخص الذي يأخذ من بيت المال ألا يكون هدفه المال، وإنما هدفه الأجر وليس الأجرة، فيأخذ الأجرة للتفرغ للأذان، فهو يأخذ ليؤذن، لا أنه يؤذن ليأخذ، يأخذ ليتفرغ للقيام بهذه الشعيرة العظيمة، وليس أنه يقوم بهذه الشعيرة لكي يأخذ المال.

وفرق بين من يؤذن ليأخذ ومن يأخذ ليؤذن، كما أن هناك فرقاً عظيماً بين من يحج ليأخذ والذي يأخذ ليحج.

فإذا قال: أنا أريد رؤية المشاعر، والذهاب إلى بيت الله الحرام، وأن أدعو هناك، وأذكر الله هناك، لكن لا أجد مالاً، وأنا أتمنى وأشتهي، فقال له إنسان: أنا أريدك تحج عن ميتي فخذ هذا المال لتحج به، فهذا هدفه ونيته؛ الحج والذهاب إلى هناك، ورؤية المشاعر، وذكر الله هناك، والدعاء هناك، فهذا يؤجر؛ فهو يأخذ المال ليتمكن من الذهاب، فالمال وسيلة، والحج هي الغاية.

أما الذي يقول: يا أخي، ابحثوا لنا عن أناس عندهم حجج لأموات لنستفيد، أو يفاوض إمام مسجد لينظر له من يعطيه أجرة حجة عن ميت على أن يكون للإمام من ذلك نصيب، فهذا ليس له عند الله خلاق.

كما بين شيخ الإسلام رحمه الله الفرق بين من يحج ليأخذ، وبين من يأخذ ليحج، فالذي يحج ليأخذ مأثوم.

وأما من يأخذ ليحج والحج هو الهدف، والأخذ إنما هو وسيلة، ومن علاماته: أنه إذا بقي مال بعد الحج أعاده إلى أصحابه.

وأما من يحج ليأخذ فتجده يفاوض ويريد أكثر، وإذا زاد شيء لا يرجعه، ولا يمكن أن يعيده.

فإذا أذن المرء محتسباً وجُعِل له من بيت المال مبلغ لتفريغه للأذان فإنه يؤجر، أما الذي يبحث عن أذان، ليستفيد من البيت الذي للمسجد، ويستفيد من الأجرة، فهذا ليس غرضه الأذان، ولا الأجر على الأذان، بل غرضه البيت (بيت المؤذن) لأنه مجاني، وغرضه راتب المؤذن.

ثم من أسوأ الأشياء التي تُفعل: أن يوكل شخصاً آخر، فيأتي بواحد من الخارج؛ من بنغلاديش مثلاً أو من الهند أو من باكستان، يقول له: تعال يا أخ أنت أذِّن، ولك خمسمائة ريال شهرياً، ثم يضع في جيبه سبعمائة فبأي حق يدخر السبعمائة لنفسه؟! وأيضاً يؤجر الشقة التي للمؤذن ويقول: هذا مصدر دخل، سبحان الله! أنت لا تقوم بالعمل، ثم تأخذ البيت، وتأخذ أكثر من نصف الراتب الذي رُتِّب للمؤذن ثم تقول: هذا مصدر دخل؟! هذا سُحْت، وكسب حرام.

وهذا من أسباب عزوف الناس عن الصلاة.

ولو وجد المؤذنون المحتسبون وشاعوا لَوَفَّقهم الله بـ (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) بناس كثيرين يأتون، لكن إذا صار هدفه المال هل هو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح من قلبه، ويرجو بها أن كل واحد يأتي إلى المسجد؟ إن أجر المؤذن عظيم! وكل واحد يأتي إلى المسجد يؤجر المؤذن مثل أجره، لأنه هو الذي دعاه (الدال على الخير كفاعله) (الداعي إلى الخير له مثل أجور من تبعه) فحين يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يناديهم، ويأتون له أجر عظيم.

فانظر كم يضيع على هؤلاء المساكين الذين ينوون الدنيا من الأجر، وكم يكون لهم من الأجر إذا نووا وجه الله تعالى! ونفس الكلام على الأئمة والخطباء، والقضاة والمفتين؛ هؤلاء يُرَتَّب لهم من بيت المال ما يفرغهم للقيام بالإمامة، والأذان، والإفتاء، والقضاء، لأن هذه وظائف دينية لا يجوز أخذ المقابل عليها؛ لكن يعطى ما يفرغه، ولا يقال: هذه أجرة الفتوى، هذه أجرة الإمامة، هذه أجرة الصلاة بالناس، هذه أجرة الأذان، هذا ليس عملاً دنيوياً حتى يجوز أخذ الأجرة عليه، فإنه لا يجوز أخذ الأجرة على الأعمال الدينية، ولا يجوز أن يبتغي الإنسان بهذه الأعمال الدينية المال أو الدنيا، لكن يبتغي وجه الله، وما يأخذه من بيت المال إنما هو للحاجة، ولأجل تفرغه وتركه السعي والمشاغل الأخرى، وإلا اضطُرَّ أن يشتغل ويترك الإمامة والأذان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015